لا يحتاج سكان ها الوطن المنكوب للمزيد من الاسباب والمعطيات التي تدعوهم لاستعراض ما تختزنه عقولهم وعواطفهم من غضب واستياء تجاه الطبقة السياسية التي تلقفت مقاليد امور بلدهم بعد زوال النظام المباد ربيع العام 2003. حيث الفشل الذريع والعجز والفساد والشراهة وضيق الافق وانسداد الآفاق والاحباط في شتى مجالات الحياة المادية والقيمة؛ قد طبع المشهد العام بميسمه، لذلك وجدت الاحتجاجات الاخيرة كل ما تحتاجه كي تندلع بهذا الشكل الواسع والذي لم يشهده العراق من قبل. قد يبدو للبعض ان هذه المشاركة الشعبية الواسعة، تعد المصدر الاساس لقوتها واقتدارها، من دون الالتفات الى ما تتضمنه من جوانب اخرى قد تلحق أفدح الاضرار بها، ان لم يتم تداركها قبل فوات الأوان. لا يتناطح كبشان على موقع ومكانة ودور شريحة الشباب العاطل عن العمل، كونه قد شكل رأس رمح الاحتجاجات وجسمها الاساس، لكنها لم تقتصر على هذه الشريحة ومن يشاركها في مطالبها العادلة والمشروعة، بل اندفعت اليها ومنذ اللحظات الاولى لاندلاعها؛ مجاميع ومصالح ومؤسسات وقوى وشخصيات يتنافر خطابها واجنداتها وسيرتها وغاياتها النهائية لا مع المطالب العادلة والمشروعة للاحتجاجات وحسب، بل مع كل ما يمت للتجربة الديمقراطية والتعددية والحريات بصلة.
كل من يعرف شيئا من بديهيات العمل السياسي وتاريخ العراق الحديث، يعلم جيدا ان الامكانية السلبية ترافق دائما الامكانية الايجابية، وقد تمكنت غير مرة من اجهاض الاخيرة والتحول الى واقع مرير، كلفنا تجرع الكثير من الكوارث والاهوال، وتجربة اغتيال “الجمهورية الاولى” ومشروعها الوطني والحضاري، ومن ثم الانتقال بنا الى ضدها النوعي “جمهورية الخوف” تمثل أبشع الامثلة على مثل تلك المخاطر والتحديات المتربصة بنا جميعاً. وهنا لابد من الانتباه الى حقيقة ان الاحتجاجات لا يمكن لها أن تستمر الى الابد، فهي نشاط اجتماعي وسياسي له أهداف محددة وواضحة، ومن ثم يتم نقل عربة التحولات الى من يمتلك مستلزمات وشروط التحولات المنشودة. لقد اشرنا الى ما يتسم به المشهد العراقي من غرائبية وعتمة وخلط ممنهج للاوراق، وقفت خلفه وسائل اعلام ومنابر ومنصات (محلية واقليمية ودولية) وحطام بشر وقيم تقبع في قعر أولوياتها؛ التطلعات العادلة والمشروعة للعراقيين.
من اجل قطع الطريق امام مثل هذه المجاميع والمخلوقات والاجندات، التي تخطط لركوب موجة الاحتجاجات وحرفها عن السبل المجربة لانتزاع المطالب والحقوق المشروعة، ينبغي الانتقال بها قبل فوات الأوان الى ما يفترض ان تكون مستعدة له، أي التفاوض مع من يمثل الحكومة الحالية والكتل الحاكمة، كي يمهد لتحولات تدريجية تنسجم وامكاناتنا الفعلية لا المنتفخة في مخيلات “الافندية”. انها مهمة صعبة من دون أدنى شك، لكنها ممكنة لانها واقعية وتتفق مع افضل ما دونه لا تاريخنا السياسي الحديث وحسب بل تجارب الشعوب الاخرى، ومنها على سبيل المثال لا الحصر؛ تجربة الاحتجاجات السودانية التي ساعدت في الاطاحة بحكم البشير، والوصول عبر المفاوضات مع المجلس العسكري الى صيغة انتقالية للحكم، انتشل من خلالها السودان (مجتمعا ودولة) من مخاطر جسيمة. ان الاصرار على رفع سقف المطالب الى مدياته القصوى، وعبر النشاط الاحتجاجي فقط، من دون الالتفات الى ضرورة الانتقال بها لما تتطلبه مرحلة ما بعد الاحتجاجات، سيكون بمثابة خدمة مجانية للقوى والمصالح والعقائد التي تنتظر بفارغ الصبر ما تفضي اليه في نهاية المطاف..
جمال جصاني