لقد اطاحت الاحتجاجات الاخيرة بالكثير من المساحيق الغليظة للعديد من الواجهات التي شرعت لها الابواب، مرحلة ما يمكن ان نطلق عليه بـ “الفوضى الانتقالية” كي تبسط هيمنتها الاعلامية والتعبوية على المشهد العام الملتبس اصلاً بفعل مناخات وشروط تطرقنا لها في الكثير من الكتابات والنشاطات. ومن ابرز ما تم تعريته في المشهد الراهن؛ هو ذلك الاصطفاف الواسع والمنظم للجماعات والقوى والمصالح والعقائد والمؤسسات المحلية والاقليمية والدولية، خلف هدف لا شريك له؛ الا وهو شيطنة كل ما له صلة بمرحلة ما بعد 2003. وكان عراق ما قبل ذلك التاريخ كان يرفل تحت ظلال نسخة متطورة من “جمهورية افلاطون”. لا احد يورط نفسه في الالتفات الى ذلك المستنقع الذي امد الكثيرين منهم بما يمتلكونه من سكراب مواهب وقيم ومعايير، تدفعهم لان يكونوا اسوداً على حقبة ما بعد 2003 وجرذان على ما قبلها. وعندما تواجههم بتلك الفضيحة المجلجلة، يقولون انكم مسكونون بصفحة قد طويت. هكذا وبكل خفة وانعدام مسؤولية وضمير، يتعاطون مع تاريخ لا مثيل له من الانتهاكات والاهوال التي تستحي منه الضواري والكواسر، وفي نفس الوقت يبيحون لانفسهم امتشاق عناوين ويافطات الدفاع عن الكرامة والحقوق والحريات والتي اكتشفوا فجاة انها قد انتهكت بعد زوال جمهورية ذلك الذي انتشل مذعورا من جحره الاخير.
لا أحد ينفي ما اتسمت به مرحلة ما بعد 2003 من فشل وعجز وفساد وعلى شتى الجبهات المادية والقيمية، حقيقة لا يختلف عليها حتى قوارض المشهد الراهن. لكن أن يتم المقارنة بينهما لينتهي الحصاد لصالح حقبة ما قبل العام 2003، فان ذلك يحتاج الى معونة اممية متخصصة في المجالات النفسية والقيمية كي تفكك لنا هيروغليفيات ما انحدرنا اليه من تيه وهلوسات. لقد اشرنا الى دور وسائل الاعلام المختلفة في صناعة ما يعرف بـ “الوعي الزائف” وعبر تصفح سريع لنوع تلك الوسائل التي طفحت على سطح احداث ما بعد “التغيير” وخلوها تماماً من أي منبر يضع نصب عينيه، المهنية وقضايا الوطن والتنوير والناس (بما في ذلك ما يفترض انه اعلام الدولة) نتعرف على علل مثل هذا التعاطي المعطوب مع الوقائع والاحداث. مثل هذا الاستغفال الواسع والممنهج وبما يستند اليه من تجربة طويلة ومكر ودهاء وتمويل لا حدود له، بمقدوره اجهاض وفتل عنق الاحداث الى اصطبلاتهم الآسنة.
ما جرى بعد زوال أبشع نظام توتاليتاري عرفه تاريخ المنطقة الحديث، لم يكن مفاجئاً لمن كرس كل حياته ومواهبه لقضايا شعبه ووطنه العادلة، لا سيما وان زوال النظام المباد قد تم عبر المشرط الخارجي، حيث وجد العراقيون أنفسهم امام تحديات لم يستعدوا لها اطلاقاً، بعد ان سحقت اجهزة النظام المباد القمعية كل ما يمت للنشاط السياسي والتنظيمي والتعددية بصلة. وجد العراقيون انفسهم امام مهمة بناء تجربة ديمقراطية من دون وجود قوى واحزاب ونقابات وهموم ديمقراطية، لا شيء سوى حطام من البشر والعقائد الصدئة والقيم المدججة بكم هائل من الاحقاد والثارات وبيارغ القرن السابع الهجري. مناخات واصطفافات وجدت فيها المصالح الاقليمية والدولية مجالا خصباً لاستثماراتها ومكباً لنفاياتها البشرية والقيمية السامة، وكل من ما زال يقبض على شيء من العقل وسط طوفان الاكاذيب والاضاليل الاعلامية، يعلم ان حقبة ما بعد 2003 لم تمثل في عقائدها وادواتها وهمومها سوى امتداد بائس لارث النظام المباد…
جمال جصاني