-1-
الفارابي من أكابر الفلاسفة عند المسلمين ، ويكفيك أنْ تعلم أنَّ (ابن سينا) كان ممن عكف على كتبه وانتفع منها .
-2-
كان تركيّاً ولكنه درس العربية وأتقنها حين وصل بغداد،واليه تنسب الأبيات المعروفة :
ما إنْ تقاعد جسمي عن لقائِكُمُ
الاّ وقلبي اليكم شيّقٌ عَجِلُ
وكيف يعقد مشتاقٌ يُحرّكُهُ
اليكم الباعثان : الشوق والأملُ
فانْ نهضتُ فمالي غيركم وطن
وكيف ذاك ومالي عنكم بَدلُ
وكم تعرّض بي الأقوامُ قبلكُمُ
يستأذنون على قلبي فما وَصَلُوا
ثم اشتغل بِعُلوم الحكمة
-2-
سافر من بغداد الى الشام ولم يُقم بها، ثم توجه الى مصر،ثم عاد الى دمشق ايام سيف الدولة الحمداني فأحسن اليه .
وله مع سيف الدولة أخبار مدهشة
منها :
انه دخل على سيف الدولة والمجلس غاص بالفضلاء، وكان بزيّ الاتراك فوقف فقال له سيف الدولة :
اقعد ، فقال :
حيث أنا ام حيث أنت ؟
فتخطى رقاب الناس حتى انتهى الى مسند سيف الدولة وزاحمه فيه حتى أخرجه عنه ،
وكان على راس سيف الدولة مماليك وله معهم لسان خاص يكلمهم به قَلَّ أنْ يعرفه أحد ، فقال لهم بذلك اللسان .
ان هذا الشيخ قد أساء الأدب واني سائله عن اشياء ان لم يوف بها فاخرقوا به
فقال له ابو نصر بذلك اللسان :
ايها الأمير
اصبر فانّ الامور بعواقبها
فعجب سيف الدولة منه وقال له :
أتُحسن بهذا اللسان ؟
فقال :
نعم أحسن أكثر من سبعين لسانا فعظم ذلك عنده .
-3-
والسؤال الآن :
هل كان الفارابي يحسن سبعين لغةً ؟
والجواب :
اللغة الواحدة قد تتضمن ألف لسان
الا ترى العربية فيها الفصيح وفيها (العاميّة) التي ليست من الفصحى في شيء وعلى كل حال فان سبعين لسانا أحاط به (الفارابي) شكلت نقطة مثيرة في تاريخه دلّت على ذكاء متميز وفطنة عالية .
وكانت معرفته بالألسن أول الطرق للوصول الى قلب سيف الدولة ونيل احترامه وتقديره .
أثول :
ان الفارابي وهو رجل تركي النسب استطاع أنْ يُتقن العربية ويتفوق بها مع ما أحاط به من الألسن الأخرى ،وأبناء العربية – بما فيهم اولئك الذين احتلوا المناصب الرفيعة وتقاضوا عنها أعظم الرواتب والمخصصات- لم يُتعبوا أنفسهم في تعلمها بالشكل الصحيح فضلاً عن اتقائها ..!!
فما أبعدهم عن (الفارابي) ونهجه ..!!
وهذه هي المقارنة الاولى
-4-
وأما المقارنة الثانية :
فقد سئل الفارابي من هو الأعلم أنت أم أرسطو طاليس ؟ فقال :
لو ادركته لكنتُ اكبر تلامذته، فانظر الى موضوعيته واحترامه وبعده عن التبجج والادعاءات العريضة .
ومرحلتنا الراهنة تشهد –للاسف الشديد – أمواجا متلاطمة من الادعاءات الكاذبة ، والانتهاكات الفظيعة لحرمة العلم والكفاءة والنزاهة والاخلاص …
وهذا هو سر التقهتر والتأخر .
-5-
وأما المقارنة الثالثة والاخيرة في هذه المقالة فهي :
جاء في سيرة الفارابي :
انه كان أزهد الناس في الدنيا لا يحتفل بأمر مكسب ولا مسكن، وأجرى عليه سيف الدولة في كل يوم من بيت المال أربعة دراهم فاقتصر عليها لقناعته
أقول :
ان سيف الدولة لم يكن بخيلا ويقينا انه حين أراد إكرام الرجل خصص له ما يتناسب مع مكانته الكبيرة وشخصيتهِ الفذة من الأموال
ولكن الدراهم الاربعة كانت تكفي الفارابي لاشباع حاجاته فلم يشا ان يأخذ منه أكثر منها .
وهذا هو الزهد بعينه، واين من هذا الزهد اولئك الذين لا حدّ لجشعهم ونهمهم في الاستحواذ على المال العام، وحرمان البلاد والعباد من منافعه؟
انهم يتقاضون من الرواتب والمخصصات ما يجعلهم في بحبوحة من العيش ، ولكنهم يُصرون على أنْ يملأوا بطونهم وجيوبهم من الحرام وسيعلمون اي منقلب ينقلبون .
حسين الصدر