ما نعنيه بسن الرشد هو المرحلة أو العمر الذي يصل فيه الانسان الى الاستقرار العقلي والوجداني بعد مشوار من التخبط النابع من المحاولات الطائشة والمتهورة لفرض التمنيات واحياناً الهلوسات على الواقع المحكوم بنواميسه القاهرة. في أحد الامسيات طرحت على أحد أفضل وأنبل ما انجبه تاريخ العراق الحديث من شخصيات وطنية وانسانية، المناضل الانسان عبد الرحمن القصاب (رحل عن عالمنا بدمشق في 9/9/2001) سؤالاً يحمل بين ثناياه الكثير من التشاؤم واليأس، لا سيما وان الراحل الكبير كان يصارع المرض الذي حرمنا منه في نهاية المطاف، قلت له كيف تقرأ المشهد الراهن المثقل بالخيبات والهوان والعجز، وعلى الصعيد الشخصي هل تشعر بالندم على ذلك المشوار المرير الذي تصديت لأصعب وأخطر أمواجه..؟ من دون ادنى تردد أجابني: أنا مرتاح غاية ونهاية ولو عاد بي الزمن الى الوراء فلن أختار غير ذلك المشوار الذي كرست له كل ما املك من قدرات ومواهب فلا سبيل أشرف من أن تكرس حياتك وقدراتك له، كالنضال من اجل كرامة وحرية الاوطان والانسان. ومن ثم لفت انتباهي الى ان تحول الحال والاحوال لا يرتبط بجهد فردي مهما أمتلك هذا الشخص من امكانات استثنائية، فالشروط الموضوعية الخارجة عن ارادة الافراد والجماعات هي من تشرع لمثل تلك الزحزحات، ونحن كأشخاص علينا وضع قدراتنا وقسطنا المتواضع في الانتقال صوب الأفضل، وقد لا نشهد شخصيا مثل تلك التحولات لكننا بمقدورنا أن نكون جسرا تنتقل فيها الخبرة والارث المشرق للاجيال المقبلة.
لقد رحل عنا المعلم بصمت وهدوء بعد ان زودنا بأفضل وأثمن الدروس والقيم، لتصبح الساحة بعد رحيله نهباً لنوع من العجائز لها مع الحكمة والمسؤولية والوعي العميق وسن الرشد خصومة أزلية. اتذكر منبع الكفاءة والنزاهة والصرامة (عبد الرحمن القصاب) كلما اصطدم بهذا الحطام من عجائز السياسة وسكراب التنظيمات السياسية والنقابية. عجائز قضت كل عمرها تؤدي دور الذيول لأكثر الحركات والجماعات تخلفا واجراماً، أي ما يعرف بالقاموس السياسي أقصى اليمين، لنجدها في مواسم الفزعات العابرة وقد رمت بعيدا بمؤلف لينين (مرض اليسارية الطفولي) لتمتطي ما يطفح عن تلك الهيجانات من وغف الثوروية والعنتريات الفارغة. هذه الخفة التي لا تليق بمن تكلست مفاصله وقدراته العقلية عند حافات أرذل العمر، تمددت بسبب ما مر على العراق من كوارث وأهوال الى الكثير من تفاصيل حياتنا، وساعدت على تسميم اجواءه وفضاءاته بشكل فظيع، عندما لم تجد دقلاتهم النزقة وسياساتهم التي الحقت أفدح الاضرار بحاضر ومستقبل الوطن والناس، أية مواجهة ومحاسبة جدية لما تسببوا به هزائم شنيعة.
كل من يتعاطي مع قضايا الشان العام بشكل جدي ومسؤول، بمقدوره اقتفاء أثر تلك “العجائز” والتعرف على نوع المحطات المخزية التي وصمتهم عند مفترق الطرق، ليدرك بالتالي المغزى الحقيقي لما يمتشقونه من خطابات وعناوين انتهازية عابرة. وهذا ما يجب على الاجيال الجديدة من العراقيين التعرف عليه واستيعاب عبره ودروسه بعمق، كي يتفادوا ما يتربص بهم من فخاخ ومحطات ملتبسة تزداد عتمة بوجود هذا النوع من العجائز التي لم ولن تعرف سن الرشد يوماً…
جمال جصاني