د. عمار إبراهيم الياسري
اشتغلت السرديات الكولونيالية على تشويه الذات العربية بشكل عام والعراقية بشكل خاص، فقد وصف العربي بالمهووس الباحث عن الغريزة والعنف والدماء أو بالدونية والاستصغار كما ورد ذلك في روايات عديدة مثل رواية (الغريب) للفيلسوف والروائي الفرنسي (البير كامو) ، إذ يقوم بطل الرواية (ميرسو) بقتل احد الجزائريين دون أي مشاعر ندم وألم أو رواية (الخوف من الطيران) للروائية الأمريكية (ايريكا جونغ) التي وصفت العربي فيها على انه مزواج شره كما نلحظ ذلك في شخصية (بيير) اللبناني زوج أخت البطلة الأمريكية الذي قدم شقيقات زوجته لأصدقائه في الحفل على أنهن زوجاته، قبالة هذا المشهد الكولونيالي اشتغلت السرديات العربية على تفكيك ذلك الخطاب من خلال سرديات ما بعد كولونيالية كما في رواية (قصر الثعلب) للروائي العراقي (إبراهيم سبتي) التي عمدت إلى كشف زيف الحضارة الغربية وبطلها النموذجي المتمثل بشخصية النجم السينمائي (كلينت ايستوود) من خلال بطل الرواية المدرس العراقي (محمد الناصري) الذي تقمص دور أخيه (احمد الناصري) المولع بشخصية النجم الأمريكي حد الهوس مما جعله يتابع كل أخباره في الصحف ويشاهد كل أفلامه في قاعات السينما حتى وصل به الحال إلى إرسال مئات الرسائل إلى نجمه الأمريكي المحبوب، وبسبب هذه الرسائل تم اختياره للتكريم بوصفه المعجب الذهبي ولكن ثمة انفجار حصل في مدينته أريقت معه روحه الندية، وحينما وصلت دعوة التكريم من النجم الأمريكي تلقفها أخوه وغامر بالذهاب إلى أمريكا ليعيش أجواء هوليود بدلا من أخيه، ومن خلال المتن الحكائي للرواية نرى أن الروائي لم يعمد إلى طريقة الروائي السوداني (الطيب صالح) الذي انتقم من المستعمر من خلال غزوات بطله الجنسية مع الشقراوات اللندنيات، بل جعل من بطله الكولونيالي النجم المحبب الذي دخل من خلاله (محمد الناصري) إلى المركز الكولونيالي ووجه له الضربات من الداخل من اجل تقويضه والتمركز مكانه، إن عملية التقويض لدى الروائي العراقي لم تلجأ إلى مواجهة العنف بالعنف كما في بعض طروحات المنظر (فرانز فانون) بل عمد إلى مبنى حكائي اشتغل على زمنين، الأول في الزمن الحاضر من خلال رحلته إلى أمريكا والمشاكل التي حاقت به هناك، والزمن الثاني كان ماضيا من خلال استخدام نسق التداعي الحر الذي وثق به المعارك التي خاضها البطل ضد المستعمر الأمريكي سواء في حرب الكويت أم حرب احتلال العراق بعد عام 2003.
لقد وظف الروائي جماليات سردية اعتمدت على المقاربة ما بين أحداث الزمنين في كشف زيف الصورة النمطية الراسخة في المخيال العالمي، ولو تأملنا حوار البطل الداخلي في الصفحة الرابعة عشرة الذي يصف فيه النجم العالمي» هو الملك المفدى وكل الناس تمنحه الهدايا والعطايا أما تملقا أو حبا» نجد أن البطل أضفى هالة كبيرة على نجمه وهي هالة استطاعت السينما الأمريكية جعلها حقيقة راسخة في وعي المتلقي، فالتكرار النمطي للصورة يجعلها جزءا من القاموس البصري للوعي الجمعي، لذا تعد كل المحاولات الأخرى لكسر هيمنة هذا النموذج بائسة أمام هذا المد البصري الممتد لعقود طويلة، في حين عمد الروائي إلى ثلم تلك الصورة الراسخة في المخيال البصري من خلال محاكاته للحرب الأمريكية في العراق بتقانة المقاربة السردية، فصورة مقتل أفراد العائلة الذين حاولوا اجتياز الرتل الأمريكي وصورة الطيار الذي قضى يومه في قتل الجنود المنسحبين من المعركة اشتغلت على تقويض الصورة النموذجية، فأية بطولة تمتزج بالوحشية في تعاملها مع العزل تعد بطولة منكوصة كما نقرأ ذلك في الصفحة الثامنة والتسعين» الموت ذاته حاصرني وحيدا عندما رجعت من الكويت ماشيا مع آلاف غيري، لاحقتنا أربع طائرات أمريكية مقاتلة أمعنت فينا موتا وخرابا»، لقد فعل الروائي ساردية المتلقي من اجل الوصول إلى معان تقوض النموذج الراسخ في الذاكرة.
مما لاشك فيه أن عملية الروي تتخذ وجهة نظر معينة، فقد يكون الراوي غير مشارك في الأحداث عارفا بكلية السرد أو مشاركا بمستوى الشخصية أو أصغر من الشخصية، إن تموقع شخصية الراوي في بنية الرواية تفرضها ضرورات فنية وجمالية، لذا عمد (سبتي) إلى تقانة ميتا سردية تجسدت في نسقين، النسق الأول تمظهر في الصفحة الأولى من الرواية حينما أنهى قراءة رواية بطلها (شاهين) ومن خلال بطل الرواية وغزواته الجنسية في بلاد الغرب تولدت لديه فكرة كتابة رواية ينتقم بها من الآخر، إذن المتلقي يشهد ولادة رواية داخل رواية، والنسق الثاني تحقق في مستهله السردي حينما كسر يقين السرد عندما خاطب المتلقي عارضا عليه استفهاماته كما ورد في الصفحة الثامنة «هل احتاج لراو يرسم لي خطواتي في بلاد الثلج والصقيع كما فعل الراوي لشاهين؟ أم سأدع الحدث يكتب نفسه ويدون سيرته؟ أم اكتب أنا فعلتي»، نلحظ بعدها أن الراوي المشارك في الأحداث المساوي للشخصية(محمد الناصري) هو الذي يقود آليات التسريد من خلال مغادرته بنية الميتا سرد إلى التماهي السردي ليجعل من المتلقي متماهيا معه في وجهة نظره، فمن جلد الذات بسبب فعلته الشنيعة التي تقمص بها شخصية أخيه وما سببت له من مشاكل وجودية بعد كشفه اضطر معها إلى الهرب بسيارة النفايات ومن ثم بالباخرة إلى وصفه للنموذج الأمريكي وبيئته الباذخة التي صنعتها المؤسسة الأمريكية وصولا إلى تداعياته عن مقدار الخراب الروحي والمادي الذي سببته الحروب والاحتلالات الأمريكية ضد العراق تشكل معماره السردي، إن التحولات السردية ما بين الميتا سرد والتماهي السردي ومسك بطل الرواية (محمد الناصري) ببنية السرد ساعدت الروائي في عقد المقاربات الكولونيالية وما بعد الكولونيالية موقعا المتلقي في ورطة نصوصية، إذ لابد عليه من الخروج من بنية الحلم التي صاغتها المؤسسة الفنية الأمريكية في هوليود، وهي بنية انزاحت من الحياة المصنوعة التي تجسدت من خلال البطل (كلينت ايستوود) الذي لا يقهر إلى الواقع الذي يحيا به معجبيه، وحسنا فعل الروائي (إبراهيم سبتي) حينما قوض الحلم الأمريكي بحلم بطل روايته (محمد الناصري) الذي فز من فراشه مفزوعا في الصفحة الأخيرة من الرواية.
رواية (قصر الثعلب) تعد فعل ثقافي مضاد فكك الفعل المركزي للسرديات الغربية وأعاد تشكيلها من خلال تقويض سردياتها الكبرى الراسخة في المخيال البصري للمتلقي برع في صياغة معماريتها التشكيلية الروائي (إبراهيم سبتي).