اسماعيل ابراهيم عبد
بإصرار ودأب تنمي الشاعرة دارين زكريا عبر مجموعتين شعريتين وعشرات القصائد المنفردة، طاقة الأمل الجماعي هدفاً لقصائدها عبر إذابة الذات في ملكوت الأبعد الكوني الكائن المطلق الجمال، الحرف. تطلق رؤاها عبر الحرف الشعري ليصير حلّاً عملياً لما درج عليه الاعلام بتسمية تفتيت بنية الرهاب.
الرهاب ليس سياسياً فحسب، إنّما هو غربة وتربية وحس باللا أمان، وفي مجموعتها حيرة مطر* ترسم لذاتها الجمعية بؤرة فعل يتدرج ـ بثيماته ـ بالاشتغال متصاعداً من الحرف نحو الكلمة فالمقطع ثم القصيدة، ومنها الى اللغة والناس والقضايا الفكرية والانسانية. لنتابع:
أولاً: شيطان الحزن
في قصيدة (كان الشيطان) تداخل بين عدة قوى ثيمية منها الحكائية، والحوارية، ووجودية الوجد المادي:
أ ـ الحكائية
تتخذ القصيدة من النسج الحكائي طريقاً فنياً لتحقيق غرضي الشعر (جودة الصياغة، وتعدد منتجات الازاحة) لننظر:
[البارحة
كان الشيطان يبكي
أعطيته أغلى ممتلكاتي
في تلك اللحظة
سيجارا رفيعا بطعم الشوكولا
ووردة بيضاء
كانت تنمو في مخيلتي على ان نقاء رجل
سيهديها لي يوما ما] ـ القصائد ص44
في المقطع المتقدم نلحظ ان الشاعرة والشيطان ينميان نوعاً من الود المتجه نحو تمكين الخيبة في سحق الجمال والفطرة، فالشيطان يرغب بزرع الفتنة في الأشياء وكذلك الشاعرة لذا فهو يتحدث بلسانها فيكمل حكاية الخراب:
[ابتسم حينها
وبدأ هذيانه يتحدث
قال انه أضاع
شعلة صغيرة في الغابة
كانت مصابة بجنون الكينونة] ـ ص45
المقطع الجديد قد أغلق الحكاية بلقطة قص فلسفية، وهذا هو الشأن السائد في قصائد الشاعرة.
ج ـ الحوارية
هي حوارية تقام على اطراف حكاية الخيانة والشاعرة في انتقالها الجديد تضعنا بحوار مباشر بإزاء ابليس مدمى بالخيبة، تتعاطف معه كون أخطاؤه ضرورات لا يمكن تفاديها:
[حينها مزجني ألمه بحزنين
الاول .. أنه فقد حبيبته الشعلة
والثاني .. أنه لم يكن له يد
في صيرورته ..
بل السبب .. النهر الكاذب.
ارتأيت ان أوسوس في اذنه
اننا مختلفون.
فلربما هو ملاك
ضل الارتحال لمنابع الصفاء
ولم ينتبه لـ .. شلالات النور] ـ ص46
في القصيدة حوار موجه للتغيرات الفكرية فلسفة وحكيا، فضلاً عن انه حوار حجاجي يستهدف خلط الفهم الشعبي بالوعي الفني العام لوظيفة الشعر، ثم تذهب بالوعي جهة فهم يخص مادية الوجد في المرحلة الرابعة.
د ـ مادية الوجد
في هذه المرحلة تتعاضد جمل القصيدة لتمكن كينونة القصيدة ان ترسم حقيقة شبه مادية، فيها وجد قيمي يحل للشيطان ان يتنصل عن فردوسه لأجل السكن عند مخبأ الضمائر:
[هكذا .. انتقل بهدوء أفعى
من كتفي الأيسر
الى كتفي الأيمن] ـ ص46
ثانيا: قلب موله بالعطر
يوجد في قصيدة رد قلبي (ص47 ـ 48) وله وعناد وعتب وقلب معطر بالاسم الملكوت! والاسم الكون والاسم الإلهام. ترى أحقاً للاسم كل هذا التعدد الدلالي؟ لنتابع:
أ ـ وله المعنى
النص الآتي لربما تكوين لصورة بهية لدلالات الاسم (الحرف)، ولتكن وظيفته ان يرد للقلب معناه:
أ ـ وله المعنى
[هاتْ
من رضابِ الحرفِ
أترعني
يا مَن نطقتُ اسمكَ
بَدَلَ صرخَتي
حينما ولدتْني أُمّي
ان راودتُكَ عن حرفي
فما أنا بآثمة وإنّما
رُدّ قلبي ..
كيف لي؟!
بعصيان عطرك البعيد] ـ ص47
المعنى الذي يدخل القلب، أو القلب الذي يُجرى على المعنى لن يتغاضيا عن آثامهما، لكن المسبب الأول ليس القلب الراعف بالجمال، ولا المعنى المنقلب من تلك الرعشة نحو الإثم
المعلن، انما الحرف المُوجِد للولادة، وللصوت والصراخ .. الحرف ـ القلب ـ العطر عصيان على مألوف المعنى، سادر في عشقه للركض والدوران حول استعارات الـ (كيف) والـ (لماذا).
القلب الحرف سَيَرُدُّ للمعنى بهاءه ، وللاسم دلالاته ، وللسمو عطره ، وللعطر عصيانه على الأبعاد .الحرف والقلب ولهانان بالعمق الذي سيبلغانه من المعنى (العُلا)!
ب ـ رضاب الخيال
تنتقل القصيدة برطوبة وطراوة من فلسفتها للأبعاد الى طاقتها في الخيال، إذ تصير القصيدة (الصرخة) رياح للمحال القريب الذي يُدرك ولا يُرى أو يُجس كونه رضابَ خيال. أي فتوة دافقة بالصور .. لنرى:
[كالرياح المهاجرة للمُحال
القريب كنميمة بين
قهوتي وفنجاني على قلمي] ـ ص48
في المقطع صور عديدة لمظهر كتابي واحد، منها:
(صورة المراودة بين الحرف والقصيدة، وصورة الرياح المهاجرة، وصورة المستحيل المهاجر، وصورة النميمة، النميمة الأقرب الى اية لغة مرارة منبهة، وصورة الفضاء بين القلم والقهوة). تلك الصور لها ظهير كبير من المضمر الدلالي، صائغها الصانع تخيل كأن لا صورة قبله لما أسمته الشاعرة القرب الشبيه بالنميمة، وكأن (البين) هو فضاء (رضاب) المعنى الحائر مثل مصير نقطة مطر في الجو لن تدرك معنى التعلق بين ماء الارض وماء السماء!
- جميع النصوص من قصائد دارين زكريا لمجموعتها الشعرية (حيرة مطر)، مجموعة شعرية، دار الرافدين ، لبنان ـ ط1 ، 2017