أشرف العجرمي
عندما شاهدت التقرير الذي أعده مراسل قناة «كان» العبرية غال بيرغر بشأن الشبان الفلسطينيين الذين هاجروا من قطاع غزة والذين تجاوز عددهم، في نصف السنة الماضية، حسب تقديرات الأمم المتحدة العشرين ألف شاب، وحسب التقديرات الإسرائيلية ضعف هذا الرقم، أيقنت أن المشروع الصهيوني الاستيطاني يتحقق على الأرض بنجاح باهر. فهذا المشروع بني على فكرة الاستيلاء على الأرض والاستيطان عليها وتهويدها وتهجير سكانها. والأرقام الكبيرة التي تتحدث عن هجرة الشباب من غزة تقابلها أرقام اقل نسبياً ولكنها مهمة كذلك في الضفة الغربية، بمعنى أننا نواجه كارثة وطنية حقيقية. ويمكن القول بكل صراحة ووضوح بأن هذه الكارثة هي النتيجة المباشرة للانقسام الفلسطيني الذي سيقضي على ما تبقى لنا في هذا الوطن الذي لا نملك غيره.
المؤسف والمثير للاستهجان حقيقة، حجم الأكاذيب التي تنطق بها شتى القيادات الفلسطينية التي تتشدق بمقاومة المشروع الإسرائيلي- الاستيطاني سواء بالسلاح أو بوسائل سلمية، ونحن في الوقت نفسه وتحت كثافة الشعارات الطنانة والمنمقة والجذابة نحقق لإسرائيل ما تريد، نفرغ الأرض من المواطنين وخاصة الشباب المؤهل والمتعلم أي هجرة الأدمغة والكفاءات والذين لا يمكن بناء مؤسساتنا من دونهم. ونحن بأيدينا أغلقنا الأبواب أمام شبابنا ودفعناهم لخيارات أسوأ من بعضها بين الهجرة أو اليأس وربما الانتحار. وحسب مركز الإحصاء الفلسطيني فإن 37% من الشباب الفلسطيني لديهم رغبة في الهجرة. وبطبيعة الحال النسبة في غزة هي الأعلى بالتأكيد في ظل حكم «حماس» والحياة «الرغيدة» التي يتحدث عنها رئيس المكتب السياسي للحركة إسماعيل هنية.
وعندما نفشل في أعظم وأهم مهمة للمؤسسة القيادية وهي تعزيز صمود المواطنين على أرض وطنهم، علينا أن نسأل ما هو معنى النضال والكفاح، هل هو بالتفاخر بعدد الشهداء والجرحى والمعاقين، أم هو بالهجرة المكثفة للشباب وتفريغ الأرض. وللأسف هذا هو لسان حالنا نعيش على شعارات ونحن في حالة ضياع رهيبة ونفقد كل شيء، وبعد مدة سنجد أنفسنا نحصي خسائرنا الكبيرة ونتحدث عن إنجازات لا تكاد تذكر أمام حجم الخسائر. ليس غريباً أننا لم ننجح في تثبيت اعتراف دولي واضح وقاطع بدولة فلسطين كدولة عضو كامل وتحت الاحتلال في الأمم المتحدة مع أن 138 دولة تعترف بفلسطين وتعترف بحقوقنا الوطنية التي اقرتها الشرعية الدولية وقرارات الأمم المتحدة. والواقع ليس فقط بسبب دور الولايات المتحدة المناهض للقضية الفلسطينية في عهد إدارة الرئيس دونالد ترامب، أو تخاذل المجتمع الدولي أو هوان وتشرذم العالم العربي، بل هناك سبب جوهري آخر يؤثر على مواقف العديد من الأطراف الدولية وهو الانقسام الفلسطيني. ومن الصعب علينا أن نقنع أي طرف في العالم بما في ذلك أنفسنا قبل الكل بأننا مؤهلون لدولة، ونحن في حالة انقسام تحت سلطتين مختلفتين، ولا نجد وسيلة لتوحيد أنفسنا في نظام سياسي واحد ونحل مشاكلنا المستعصية وتوفير الحد الأدنى من الصمود للمواطنين الفلسطينيين في الأراضي المحتلة في الضفة الغربية والقدس في قلبها، وقطاع غزة الذي من الممكن أن يكون رافعة للمشروع الوطني وعماداً للنهوض على مختلف المستويات، خاصة لأنه يخلو من المستوطنات والوجود العسكري. وبإمكانه بعد إزالة الحصار وإعادة بنائه من جديد أن يكون مركزاً أساسياً للاقتصاد الوطني، خصوصاً إذا أقيمت فيه مشاريع اقتصادية كبرى وتم بناء الميناء والمطار، وكل هذا مشروط بإنهاء الانقسام. يمكن لنا أن نتحدث عن الانقسام ما شئنا، ويمكن لكل طرف أن يحمل المسؤولية للطرف الآخر، واقصد هنا «حماس» التي نفذت انقلاباً على السلطة من جهة، والسلطة والقيادة الفلسطينية التي سمحت بذلك ومولت الانقسام من جهة أخرى. ولكن لا فائدة من هذا الحديث، بل إن المهم هو هل نحن مخلصون لفكرة الوطن الفلسطيني وتحقيق حلم شعبنا بدولة فلسطينية مستقلة بعد إنهاء الاحتلال الإسرائيلي عن كامل الأراضي المحتلة منذ العام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية وحل قضية اللاجئين الفلسطينيين؟ أم أن الموضوع برمته تحول إلى مجرد شعارات جوفاء ولكل واحد أجندة خاصة مرتبطة بالسلطة والنفوذ والمصالح الخاصة؟
الشعب الفلسطيني ما يزال يؤمن بحقه المشروع أسوة بكل شعوب الأرض، ولكنه لا يزال منكوباً في قياداته التي باتت في واد آخر، وابتعدت عن همومه وقضاياه الكبرى إلا من زاوية من يكون على كراسي الحكم والسلطة وينعم بالامتيازات. فالمشروع الذي يسمي نفسه مشروع المقاومة ويتركز في غزة بدرجة أساسية في فصائل مدججة بالسلاح لا يهمه سوى التوصل إلى تهدئة مع الاحتلال يضمن من خلالها استمرار حكم «حماس» في غزة، حتى لو كان الثمن التخلي عن المشروع الوطني. وكل العبارات التي تقال لتزيين القبول بهذه الصفقة لا يمكنها أن تخفي الحقيقة التي بات الإسرائيليون شركاء فيها ويقدمون لها التسهيلات كالأموال القطرية على سبيل المثال، وحتى لو حصلت مواجهات فهي لمجرد تحسين شروط الأطراف في الصفقة. وفي المقابل لا يبدو عند القيادة وعند «فتح» على وجه الخصوص خطة جدية أو توجه واضح لإنهاء الانقسام وتقصير عمره غير تكرار مقولات تدعو «حماس» للالتزام باتفاق عام 2017. وعندما تسمع تصريحات من قيادات كبيرة تقول إنه آن الأوان لتقويض سلطة «حماس» أو سلطة الإنقسام، لا ترى برنامجاً واضحاً حول كيفية القيام بذلك بين من يهدد بالجوازات والهويات وشهادات التوجيهي، وبوقف تمويل السلطة لقطاع غزة في كل المجالات باستثناء موظفي السلطة الذين كانوا الضحية لسوء التقدير، وبين من يقول إن «حماس» المستهدفة وليس المواطنين. فكيف يمكن ذلك وهل هذا سيقضي على الانقسام أم يعمقه؟ الكل يتصرف بردود أفعال والشعب يضيع في خضم صراعات لا يبدو أن لها نهاية قريبة.
ينشر بالاتفاق مع جريدة الأيام الفلسطينية