مسيرة حافلة بالتضحية والعطاء المهني
بغداد – الصباح الجديد:
تحتفي الاسرة الصحفية العراقية اليوم الخميس بالذكرى 48 بعد المائة لعيد الصحافة العراقية ذكرى صدور اول جريدة عراقية تحمل اسم / الزوراء / في الخامس عشر من حزيران عام 1869 .
لقد اثبتت الاسرة الصحفية من خلال مسيرتها الحافلة بالتضحية والعطاء المهني انها قادرة على ان تعيد لهذا البلد رونقه ومجده بالكلمة الصادقة المعبرة عن ضمير المواطن ومعاناته وصدق انتمائه فقد سطر الصحفيون العراقيون طيلة مسيرتهم الصحفية ملامح انتقالة نوعية في مسيرة الاعلام الناهض مستثمرين اجواء الحرية والديمقراطية التي تترسخ يوما بعد اخر في البلد الذي عاني من الظلم والاضطهاد والانغلاق في الحقب السالفة لاختزال الوقت وسنوات الضياع من اجل التطور والاستفادة بما يخدم رسالتهم الاعلامية واهدافها .
وبهذه المناسبة تنشر « الصباح الجديد» رسالة بعث بها الزميل سيف الدين الدوري* من لندن وهي سيرة ذاتية للزميل ابراهيم صالح شكر وهو من الصحفيين العراقيين الرواد الذين عملوا بالرغم من المخاطر الكبيرة التي يواجهونها فاننا يحدونا الامل بأن تقف السلطة الرابعة بمسؤولية تجاه الهجمة الارهابية والتحديات العديدة التي يتعرض لها بلدنا العزيز”.
يقول الزميل الدوري لقد نشأ ابراهيم صالح شكر في حجر أب ينتسب الى عشيرة الكروية ، ودرج في باب الشيخ ، فنشأ نشأة صالحة عامرة بالايمان، وإعتمر في صباه ( العمامة) شأنه شأن أي طالب علم ، وإنخرط في الحلقات التي ينتظم عقدها في المساجد،إلا أن إحساسه طغى على تفكيره ، فلم يصبر على مواصلة التحصيل المتعارف عليه في تلك البيئات المحافظة، وإنغمس في تيار الادب الحديث يطالع ما تنتجه مطابع الشام وبيروت والقاهرة.
وما أن بسط الدستور العثماني ظله على أرجاء الامبراطورية العثمانية وتنفس العراق نسيم الحرية ، وأقبل العراقيون على إصدار الصحف والمجلات، حتى حمل إبراهيم صالح شكر قلمه وساهم في جريدتي ( النوادر ) و( بين النهرين) بشذرات أدبية. وسرعان ما خطا خطوة أبعد فأصدر جريدة أدبية في 25 نيسان 1913 بعد أن كان يشارك إبراهيم منيب الباجه جي في جريدة ( الرياحين) .
وقد عبّرت الجريدتان المذكورتان عن نزعة إبراهيم صالح شكر ومدى تأثره بالفكرة العربية ، التي رفعت ذلك الوقت شعار الدعوة الى( اللامركزية) فتعرّض الرجل الى نقمة الاتحاديين .ففي ليلة تشرين الثاني 1915 القي القبض عليه مع غيره من الشباب ، وإبعدوا تحت حراب الجيش ، ونظرات الازدراء الى الموصل حيث قضى في السجن أربعة أشهر.
ولم يكن لديه عندما أبعد عن بغداد ، قريب يكتب اليه فقد داهم الطاعون قبل ثلاثة أشهر من نفيه داره ، وقضى على أمه وأبيه ولم يترك له إلا أخته وهي طفلة صغيرة ، لا يزيد عمرها على سبع سنوات. وقد وصف إبراهيم صالح شكر هذه التجربة القاسية في حياته ، في مقالات متسلسلة نشرها بعنوان ( من صحف الدفتر الاسود – مذكرات حتروش).
ولعل إبراهيم أراد بعد أن رجع الى بغداد إثر إنحسار الحكم العثماني أن يخلد للراحة، فإنصرف يدير شؤون محلة ( قهوة شكر) بوصفه مختاراً. وقد صرفته الاعمال عن المشاركة في الاحداث السياسية.
وخلال تطور الاحداث وتبلور الموقف السياسي وبرزت إتجاهات الرأي العام ، وتألفت إثر خمود الثورة العراقية حكومة اهلية ، خرج إبراهيم من عزلته ونزل الى الميدان بزي جديد ، فإرتدى الملابس الافرنجية وإعتمر الطربوش العثماني وحمل العصا، ولم يبق من هيئته السابقة إلا تلك اللحية المسرحة، وأصدر في كانون الاول 1921 ( الناشئة) مجلة أدبية صغيرة الحجم بالاشتراك مع صديق له لم يلبث أن تفنن في إخراجها وتأنق في طبعها ، فإستقل في إصدارها في ثوب جديد بإسم( الناشئة الجديدة) في كانون الاول 1922.وأخذت تصدر كل يوم جمعة ، طافحة بالمقالات الادبية الغنية بالقصائد الشعرية ، وتضم حقولاً متنوعة كـحقل ( ديوان الانتقاد) حيث يلاحق فيه إبراهيم صالح شكر بنقداته اللاذعة بعنوان ( حملة الاقلام في دار السلام) بمقالات يذيلها بتوقيع ( الجرجاني) وكذلك حقل ( معرض المشاهير) حيث يرسم فيه صوراً لبعض الادباء والرجال،. وفي مكان آخر حقل ( جمهورية الادب) يبسط فيه روفائيل بطي سير أدباء العرب المعاصرين ، وهناك باب للقصة يساهم فيه محمود أحمد السيد وعبد المسيح وزير.
وقد شبه أحد الادباء دور إبراهيم صالح شكر في ( الناشئة الجديدة) بدور العقاد والمازني في ( الديوان).
وأثارت الناشئة الجديدة ،إهتمام القراء ولفتت أنظارهم الى أسلوب الكاتب الجديد ، والتفاتاته الذهنية . ففكر بعض الساسة بلاستفادة من قلمه والاستعانة بمواهبه في الصراع الذي يدور في ذلك الوقت في الميدان السياسي.
في جريدة الزمان التي صدرت في 11 تموز 1927 تحول إبراهيم صالح شكر من ميدان الادب الى ميدان السياسة، فإنتهج سياسة وطنية دافع فيها عن التجنيد الاجباري ، ودخل في حرب قلمية مع ( حزب النهضة) الذي عارض ذلك المشروع ، وإنتصر للطلبة في التظاهرات التي أقاموها بمقدم الزعيم الصهيوني ( الفريد موند) وحمل على وزارة عبد المحسن السعدون ، عندما إتخذت إجراءات شديدة ضدهم من ( فصل) و(إبعاد) ودعا الى إحلال العراقيين في وظائف الدولة وإستبعاد الموظفين الاجانب عنها.
وفي الانتخابات التي جرت عام 1928 للدورة البرلمانية الثانية ، حمل حملة شعواء على حزب التقدم ، وسخر من مرشحيه ، وكشف النقاب عن الفضائح التي رافقت الانتخابات ، وأهاب بالشعب أن ينتخب العناصر الوطنية أمثال ( جعفر ابو التمن) و( أحمد عزة الاعظمي).
وكانت تلك المقالات شديدة التأثير ، بحيث إضطر حزب التقدم ( حزب عبد المحسن السعدون) الى عقد إجتماع إتخذ فيه قراراً بتعطيل ( جريدة الزمان) ومصادرة اعدادها من الاسواق .
وقد إحتل إبراهيم صالح شكر بسبب ذلك الاسلوب ، مكانة خاصة لدى العاملين في ميدان السياسة ذلك الوقت، بحيث أخذ أكثرهم يخشى من لاذع قوله ويخاف من مرارة قلمه ويرهب من سلاطة لسانه ، فسعى بعضهم الى خطب وده ، وحاول عدد منهم إسترضاءه ، وقد أشار إبراهيم صالح شكر الى ذلك بشيء من الاعتزاز ، فكتب في إحدى المناسبات يقول « يتساءل الكثيرون من رجال الدولة وذوي النفوذ في البلاد عن ( الاوفيس) الذي يستطيعون مقابلتي فيه..أنني يومياً من الساعة الخامسة بعد الظهر حتى الساعة الثامنة مستعد لملاقاة المحبين في القهوة المجاورة لدار مستشار الداخلية المستر كورنواليس..أما ( رجال) الدولة الذين يودون مقابلتي ويتفضلون بزيارتي فهم يستطيعون ذلك ، إلا إذا كانوا يترفعون عن زيارة المقاهي.
أنا أجلس في ( القهوة المعلومة) مع فئة من الادباء يعتز الادب العراقي بهم ، مؤلفة من الدماغ الجبار الزهاوي ومن الصحفي المرن إبراهيم حلمي الهمر ، ومن الكاتب المضطهد روفائيل بطي ، ومن الاجتماعي الناقم محمود أحمد ومن غيرهم ممن ( ثقلت عقولهم ) و( خفت جيوبهم) او بالعكس..؟»
وقد جرى إبراهيم صالح شكر في إدارة جريدة ( الزمان) وتحريرها على إسلوب الصحفي المصري المشهور ( الشيخ علي يوسف) صاحب ( المؤيد) الذي كان يعجب به ، ولا ريب في أن جريدة الزمان قد حققت رواجاً كبيراً ، فكان الجمهور يقبل على قراءتها بإندفاع ويحس بأنفاس كاتبها تلتهب بين السطور ، فتفعل في نفسه فعلها وتهز اعصابه هزاً. وقد كان إهتمام صاحبها بتصوير المناظر المؤلمة ووصف الهياكل الجوفاء وكشف المستور من التصرفات وفضح المكنون من التدابير، من الموضوعات التي تغري الجمهور وتشبع فضوله في معرفة الاوضاع الظاهرة وما يستتر خلفها من حقائق.
يذكر أن خالد الدرة كتب في مجلة الوادي الصادرة في 17/مايس 1948 أن إبراهيم صالح شكر ، ربح مرة من عدد واحد من جريدة الزمان ، ما يكفيه مدة (3) أشهر.
إستمر إبراهيم صالح شكر يواصل ممارسة ذلك الاسلوب الساخر العنيف في جريدة ( المستقبل) التي أصدرها عبد القادر اسماعيل بعد تعطيل الزمان في عام 1929 ، وفي جريدة ( الأماني) التي أصدرها عبد الرزاق شبيب عام 1931.
وقد وجدت المعارضة التي تبلورت عام 1930 بحزب ( الإخاء الوطني) وركزت المعارضة على المعاهدة في قلم إبراهيم صالح شكر خير سلاح تستعين به في الهجوم على وزارة نوري السعيد، فإستعانت به وفسحت صفحات جرائدها لقلمه . فإندفع إبراهيم بكل ما يملك من جرأة وشجاعة في مقالات شديدة لاذعة إنتهت به الى الاصطدام مع ( مزاحم الامين الباجه جي) الذي كان في تلك الايام قطباً من أقطاب السياسة. ركز الانظار حوله بنشاطه وكفاءته، فعلقت عليه المعارضة آمالاً جساماً عندما إنضم اليها إثر عودته من أوروبا، وإندفع في صفوفها يصرح مندد بالمعارضة وأسرع يتوسد أول كرسي وزاري لوّح له به نوري السعيد مستقيلاً من حزبه. فأسرع إبراهيم صالح شكر يعبّر عن ذلك بمقال بليغ يشيع فيه مزاحم الباجه جي كزعيم سياسي لمع نجمه أياماً فأنعش آمال جيل من الشباب لفترة قصيرة ثم تلاشت تلك الامال على صخرة المساومة السياسية.
وقد إختار إبراهيم صالح شكر لتلك المقالة عنوان ( حفنة تراب على مرقد الباجه جي مزاحم الامين) وقد صدرت تلك المقالة في وقت كان فيه مزاحم الباجه جي يلاحق المعارضة بحملات قاسية ويحارب إضراب العمال وبإجراءات شديدة أثارت النقمة عليه، فكان من الطبيعي أن يجد الجمهور في تلك المقالة متنفساً يعبّر عن سخطه . فأقبل الناس عليه إقبالاً شديداً، وأسرعت الايدي تتلقفه من الباعة بحيث إختفى من السوق وارتفع سعر الجريدة الى أربعة اضعاف.
وقد كلّف هذا المقال إبراهيم صالح شكر ثمناً غالياً في إعتداء تعرّض له ، وفي سجن دخل اليه إثر دعوى رفعها ضده ( مزاحم الباجه جي) وقضى في زنزانته أربعة أشهر ، ولم تكن محنة السجن هي المحنة الوحيدة التي تلقاها في كفاحه الصحفي ، فقد واجه الرجل محناً كثيرة، عطلت صحفه الواحدة بعد الاخرى وكاد في حزيران أن يقتل بالرصاص .
وفي خريف 1938 ضاقت الدنيا بوجه إبراهيم صالح شكر فحمل قلبه بين جنبيه وغادر وطنه يتنقل بين دمشق والقاهرة وبيروت والقدس ، ولما إشتدت به العلة في دمشق وسقط مريضاً أرسل الى حسين جميل يقول له ولرفاقه الطلبة بلوعةٍ ( إحملوا اليّ حفنة من تراب العراق ،أشرب عليها كأس حمامي)
وقد حاول وهو في دمشق إصدار جريدة بإسم ( الفرات) وإستعان بنفوذ أصدقائه في سبيل الحصول على إمتياز بها. وفي الشام كان إبراهيم موضع إهتمام رجال السياسة والصحافة ، وقد توثقت صلاته بعدد منهم ، من بينهم فوزي العزي وهاشم الاتاسي وفخري البارودي ومعروف الارناؤوط وأمين نخلة ونجيب الريس الذي شبه دور إبراهيم صالح شكر في الصحافة العراقية بدور أمين الرافعي في الصحافة المصرية.
وكتب عنه أمين نخلة قائلاً : … هذا الكاتب العراقي ، غريد الحرية ومغني دقائق الفصاحة في ظل النخيل على دجلة ، قطرة من قلمه ترجح بلجج الجد وصيحة في البطحاء من صيحاته هي أشد هولاً على جنباتها من جلجة الرعد ، هذا الذي أقام جيلاً وأقعد جيلاً وتقاسم والغيث من ملك ( هارون) فخر الربيع الجديد .. هذا هو إبراهيم صالح شكر.
كان إبراهيم يعني عناية خاصة بإسلوبه الكتابي ، فيحرص أشد الحرص على إنتقاء الالفاظ وإستحداث العبارات الرنانة، شأنه في ذلك شأن فحول الكتابة . وقد ظهر على أسلوبه أثر التأثر بكتابات الكتاب القدامى ، مثل ( الجاحظ) والمحدثين مثل طه حسين ومعروف الارناؤوط .
بقي إبراهيم صالح شكر فترة من الزمن بعيداً عن الصحافة ،إنصرف خلالها الى القيام بأعباء الوظيفة يتنقل تارة من ( الفلوجة) الى( قلعة صالح) الى( خانقين) حتى إذا تطورت الاحداث ووقعت حركة مايس 1941 وساد البلد جو من الحماسة لم يستطع إبراهيم أن يكبت مشاعره فإندفع في إسنادها وأبرق الى رشيد عالي برقية حماسية.
وقد إزدادت نفسية إبراهيم سوءا بعد أن اعدم صديقه محمد يونس السبعاوي وترك مصرعه أسوأ الاثر في نفسه ، وإنحدرت صحته حتى جاء يوم 15/مايس 1944 فاستسلم الى المنية وهو يردد على فراش الموت ( سأموت في هذا المكان لا شهيداً ولا بطل).( نقلا عن كتاب – شخصيات عراقية من العهد الملكي، تأليف خيري أمين العمري، ص 303 -326).
*كاتب وصحفي عراقي