د. جيهان الشندويلي
في البداية عنوان الرواية” لعبة النوافذ” يميل لاستثارة الفضول نحو تجربة نفسية واجتماعية، ففيه إيحاء بالغموض.
كلمة “لعبة” تتجاوز معناها البسيط المرتبط بالتسلية لتتحول إلى رمزٍ عميق يُعبر عن التلاعب بالأفكار وتَحتمل الكلمة بُعدًا فلسفيًا يتعلق بالتجريب والخداع، أما النوافذ فتحمل دلالة عميقة أبعد من معناها الفيزيائي فتمثل رمزية شاملة تفتح على آفاقٍ متعددة لتتحول إلى معبر بين عالَمين الداخل والخارج، الذات والآخر، التسلل إلى عوالِم خفية، فهي رمز يختصر المسافة بين الشخصيات والعوالم الخارجية.
لوحة الغِلاف يَظهر بها رمزيات وإشارات لمحتوى الرواية ويُعد تجسيدًا بصريًا لأجوائها النفسية
هناك حكمة مشهورة تقول ” من راقب الناس مات هما”
الرواية تتناول قصة بهجت، رجل الأعمال الستيني الذي ينسحب من عالم المال نحو عالم غريب من التلصص على الجيران، يراقب تحركات وأفعال الجميع من شرفة منزلِه وتتحول حياتُه تدريجيًا إلى تفاعل مضطرب مع عالم “الجيران”.
فتقدم لنا الرواية نقدًا عميقًا لجوانب معينة من الحياة الاجتماعية والنفس البشرية، والرواية تطرح جدلية حول الفراغ الداخلي، وتعويضِه بالانغماس في حياة الآخرين هربًا من الذات، والشعور بالتعويض عن حياةٍ تبدو سطحيًا ناجحة ولكنها متآكلة من الداخل.
التلصص ليس مجرد عادة سيئة أو رغبة في اختراق الخصوصيات، بل يبدو هنا كنوع من “البحث” عن مغزى جديد للحياة أو الهروب من الشعور بالزمن الذي يفلت من بين يديه.
إن محاوَلة بهجت تبرير تلصصَه على الجيران بدعوى “المساعدة” لا تخلُ من رغبةٍ دفينة في السيطرة والتحكم، وكأن معرفته بأسرار مَن حوله تمنحه شعورًا بالقوة التي لم يَعد يجدها في حياة رجال الأعمال التي تخلى عنها بإرادته؛ هنا يُظهر النص شغف البطل بملء فراغ حياتِه عن طريق توجيه بصرَه إلى حياة الآخرين، فيبحث عن معنى مفقود بين تفاصيلهم.
وتتطور الرواية مع ظهور سماء.
سماء هي مهندسة تعمل في وَزارة الزراعة؛ تعيش بمفردها في المنزل المقابل لبهجت بعد ما طُلقت من ” جهاد شُكر” الشخصية النرجسية؛ ذلك الكاتب الذي يواظب على ارتياد الندوات والمؤتمرات الأدبية ويَشعر دائما أنه الأديب المتفرد، وأن حقَه مهضوم في الحصول على الجوائز الأدبية المختلفة ، هذه الشخصية نجدها هي السبب الرئيس في مجرى أحداث الرواية وهي لُب القضية، لكن بالرغم من ذلك ليس له بصمة تُذكر في الرواية إلا نادرا ؛ فتعمدت الكاتبة أن تُخفت صوتَه لأدنى حد وتجاهلت عمدًا وجود هذا الرجل ذو الشخصية المتضخمة فقد كان يشعر دائما -كما قالت الكاتبة – بأنه “نمبر ون”.
كرهت سماء هذه النرجسية في زوجها، ولشعورها بالملل ؛ لجأت لحيلة غريبة وهي عمل حساب مزيف على شبكة التواصل الاجتماعي، هذا الحساب الذي كان سببا في انفصالهما بعد ما وجدت رسالة من زوجها يريد أن يتعرف على صاحبة هذا الحساب، فوافقت وتطورت العلاقة حتى طلب منها الزواج دون أن يعرفها أو يراها فقط جذبته بصورتِها المزيفة التي أحسنت اختيارها لتلك الصفحة، وبعد هذه الواقعة لم تعد سماء قادرة أن تعيش مع جهاد تحت سقفٍ واحد وقررت أن تبتعد تماما، ليس عن حياتِه فقط بل عن المدينة كلِها .
إذن سماء وبهجت تراودهم نفس فكرة التلصص على الآخر ومع ذلك بهجت لم يكتشف تلصص سماء لكن هي من اكتشفته وكأنها مرآة تعكس لبهجت تفاصيل الحياة البسيطة والصراعات الداخلية والخارجية التي تحملها كإنسانة، فهو يتلصص على الجميع وسماء تتلصص عليه من الشرفة، فصار لُعبتها التي تتسلى بها.
إن فكرة التلصص لم تكن أصيلة في بهجت أو سماء إنما هي وليدة الظروف.
لكن محاولة النص فلسفة التلصص وتغليفَه بهدف “نبيل” كمعرفة تفاصيل حياة الجيران بقصد المساعدة يكشف عن مفارقة ذكية، لكنها مقلقة، فالتلصص؛ الذي يُعد في الأصل فعلاً غير مقبول، يُستخدم كوسيلة لاختبار حدود الفضول البشري وتبرير الدوافع. إنها محاولة لتحويل فعل مشكوك فيه إلى شيء شبه بطولي.
فكرة التلصص في الرواية الحديثة تُعد من الأدوات السردية التي تُستعمل لاستكشاف العوالِم الداخلية للشخصيات وكشف التناقضات الاجتماعية في النص، هذه التَقنية تُضفي طابعًا نفسيًا واجتماعيًا عميقًا على الرواية، إذْ تَمنح القارئ دور المراقب الذي يكتشف الأسرار والخفايا، كما أن التلصص يُساعد في رسم ملامح المجتمع بطريقةٍ أكثر واقعية من خلال التركيز على الجوانب غير المرئية التي تعكس الأبعاد النفسية والاجتماعية للفرد.
من الناحية البِنيوية، يَعتمد النص على أسلوب سردي متأرجح بين صَوت الراوي العليم وصَوتي بهجت وسماء وأحيانًا يختلط الأمر على القارئ فلا يعلم مَن هو المتكلم حتى يتبين أنه الراوي أو سماء أو بهجت؛ لكن يحتاج ذلك إلى قراءة الجملة كاملة.
هذه التقنية السردية التي يتأرجح فيها نص الرواية بين صَوت الراوي العليم وأصوات الشخصيات دون إشارة ودون فاصل طباعي؛ تتطلب براعة في أسلوب الكتابة، وتضع القارئ في حالة يَقظة دائمة، تَدفعه للتأمل في هُوية المتكلم وقد يعكس تداخل عوالمُهم النفسية، ويمثّل رغبة النص في التعبير عن وحدة التجربة الإنسانية حيث تتداخل أفكار الناس وتتشابه رؤاهم رغم اختلافاتهم..
فكرة تَعدد الأصوات هنا تُذكرنا بالراوي مُتعدد الأصوات في رواية خريف البطريرك للكاتب الكولومبي جابرييل جارسيا ماركيز ورواية التلصص لصنع الله إبراهيم
بالتالي فإن استخدام فكرة التلصص ليست فكرة يَنسج حولها الكاتب روايته، بل هي أداة فلسفية وأدبية تُستخدم لفتح أبواب الأسئلة حول ما هو مُعلن وما هو مَخفي، ولطرح تساؤلات حول الحدود بين العلنية والسرية في الحياة الإنسانية.
فكرة التلصص في الأدب العربي والعالمي تقدِم صورة معقدة للعلاقات الإنسانية، تجعلنا نتساءل عن حدود الخصوصية وحق الأفراد في الاحتفاظ بأسرارهم، حيث يعكس التلصص تناقضاتِنا وتوتراتِنا كأفراد وكجزء من المجتمع.. إن الأعمال الأدبية التي تتناول هذه الفكرة توفر لنا نافذة على فهم النفس البشرية والتحديات التي تواجهها في سياقات اجتماعية وثقافية متنوعة.
إجمالا، تقدم الرواية تجربة ماتعة؛ فهي نص يحمل طموحات فلسفية وأسلوب السرد المتميز قدم عملًا ينحت في أعماق النفس الإنسانية بذكاء، ويترك بصمة قوية لدى القارئ الذي يبحث عن نص يُحرك عقلَه وعواطفَه.
لغة الرواية جاءت سهلة متقنة وغير معقدة بل ممتعة وجذابة.
الكاتبة اختارت أن تختتم روايتها بنهاية مفتوحة، وهي تُعد خُطوة شُجاعة تَتماشى مع الطابع التأمُلي للعمل، وتترك القارئ في حالة من التساؤل.
وفي الأدب الحديث، تُعتبر النهاية المفتوحة وسيلة فعالة إذا ما بُنيت بمهارة كنهاية رواية لعبة النوافذ وكأن النهاية المفتوحة بمثابة رسالة بأننا جميعًا عالقون في نهاياتٍ مفتوحة، سواء أدركنا ذلك أم لم ندرك.
بين النوافذ المغلقة والأبواب المفتوحة: رحلة في أغوار رواية “لعبة النوافذ”
التعليقات مغلقة