جاذبية الرصيف إذ تنتصر على خراب الإمبراطوريات

اسماعيل زاير*

اشتهرت العواصم الأوروبية بجاذبيتها لأجيال الأدباء المتمردين خلال وبعد الحربين العالميتين في القرن العشرين. هذه الجاذبية كانت وليدة ظروف غاية في الموضوعية والمنطقية. فالحربان تركتا مئات الالاف من البشر الضائعين والضالين في الحقيقة عن جاذبية الأمم لسبب بسيط هو ان قيدات تلك الدول واطماعهم كانا وراء اندلاع الحروب، وكان الفخار القومي واحلام الإمبراطوريات التي قبرت بفعل ارتقاء النسيج الاوروبي وتكريسه حريات المواطن بدلاً من قيم الامة والوطنية التقليدية، قد القى القارة القديمة اوروبا في المجاعات والدمار ولا سيما وان التطورات المصاحبة للنهضة الاوروبية اغوت اصحاب النفوذ والمتمولين وامراء العهود المندرسة بالمغامرة وشن الحروب لتعويض النقص الحاصل في ثرواتهم ودورهم. كانت الروح العسكرية ولفحات الأرستقراطيات الالمانية والفرنسية من الوقاحة انها حولت تلك الغواية الى برنامج للسيطرة على الضعيف من جيرانها واستهداف القوي لكسر شوكته واعتلاء القمم الاوروبية في مسايرة للنزعات المتطرفة والاستعلائية للعواصم التي غربت سطوتها واندثر ارثها الاستعماري.

في هذه المعادلة الدموية التي دفعت شعوب اوروبا ملايين الضحايا والخسائر المادية المتمثلة بتدمير المراكز الحضرية والعمران خرجت فئات الشعب البسيط ولا سيما سكان الارياف وفقراء المدن وتراجعت حركة الاقتصاد والتجارة بفعل انسلاخ المستعمرات وطردها ملايين اخرين استوطنوها كقوات احتلال واعادتهم الى بلدانهم الاصلية وهم يقفون على هامش المدينة وهامش السياسة ويستوطنهم حقد شامل على الشعب الذي خذلهم ولم يسعفهم بالعدد الكافي من الرجال اللازمين لإستمرار الاستعمار موئل سلطتهم المفقودة.

ان هامشية هذه الطبقات تركتهم امام خيار التآمر على دولتهم الام وبالتالي زادوا عزلة ويمينية وشجعوا حيثما امكن نزعات المغامرات التي قادت في النهاية الى خراب اوروبا.

ان تعبير المواطنة و»المواطن» لم يكن جديداً على اوروبا التي ظنت ثورتها الفرنسية في العام 1789 انها ستحرر الشعب من الدولة. ولكن هذا الامر تعرض لنكسات كبيرة بعد هزيمة اهل الثورة وقادتها واعدامهم في اوروبا ومن ثم بهزيمة بونابرت الممثل الكبير للقيادة الجديدة.

وتحولت اهداف الحرية والإخاء والمساواة الى ظلال باهتة نتيجة هجمة الإرستقراطية الاجتماعية في القارة وتحالفها مع العسكر ومؤسسات الصناعة التقليدية لمعدات الغزو والسيطرة.

وهذا ما القى «المواطن» في الشارع ليثور ويهزم، ومن ثم يثور ويهزم حتى جاء عصر تبلور فيه انقسام اجتماعي لم يجد ادباء وثوار اوروبا معه ما يذهبون اليه سوى الشارع. وهكذا دخل الخارجون من رحم مرتبك للعصر الاوروبي الى هامش فسيح ضمن طيات المدينة المتعبة والدولة المتعبة.

في عهد كهذا كان خيار الهامش الاجتماعي يتمدد ويتسع ويفرز الكثير من الظواهر والثمار. وصارت تجسيداته البائسة شهادة على عصر بكامله. في المجاميع المتدفقة من خارج العواصم الى ازقتها تلمسنا «بؤساء» فيكتور هيجو واشراقات آرثر رامبو ونصوص ورسوم وتقاليد النوع المتمرد بتمثيلاته الواسعة تي تركها القائمون على السلطات تنمو وتتكاثر وتتضاءل او تولد من جديد. اكنت المقاهي هي قلاع التمرد والشوارع والحارات والأزقة اشعتها المتمادية. في الموسيقى نهض اكورديون باريس ومغنيات الشانزليزيه اللواتي ينبثقن من بين شبكة العنكبوت السرية زاحفات نحو حانات صغيرة بالكاد تجد فيها مكاناً للوقوف، فضائلها انها توحد اجساد العشرات من البؤساء والمتسكعين ما بعد منتصف الليل وتقيهم شرور البرد والزمهرير والعسس.

مع الزمن تحولت المقهى الى شرط وجودي ومأوى من لا مأوى له. منها خرجت بيانات الفن والشعر وعلى ارصفتها المحيطة قرأ فرلين ورامبو والسورياليون وعناقيدهم الغرائبية نصوصهم.. اعلنوا ثوراتهم الخاصة وسجلوا انفسهم في سجل المغادرين لجسد امم اوروبا التعس.

والى جوار اقتصاد وثقافة ومجتمع رسمي اصبح المقهى ديوان مظالم لملايين الكائنات مجهولة العنوان وموطناً لرؤية ما تجود به قرائح ونفوس جريحة انما متلهفة لشيء ما لا يمت للسلطات بصلة. تحولت المقهى الى عنوان اللعنات المنهمرة من افئدة الشرائح المنكسرة والعبيد الآبقين والمراهقين المأخوذين بقيمة ان لا تكون منتمياً لأحد، اي احد.

لذا فالمقهى كان مستقر من لا يعرف لنفسه هوية او انتماءً اجتماعياً ينجذب اليها الناس حيث يلتقون بأكثر الأشياء غرابة وسخرية وجرأة. لم تكن تحتاج الى حجوزات او مواعيد او بطاقات انضمام، بل يمكنك ان تنضم من دون شرط الى اي جماعة وتخرج منها متى شئت.

مع الزمن لم يعد في المدينة الاوروبية ما يستحق الرؤية او الاستماع بقدر ما تعرضه المقهى، بقدر ما يعرضه هامش المدينة. ولم يحصل هذا الامر بيسر او من دون مقاومة السلطات والممالك، بل تعداها وخرج من اطواقها بعد كل غزوة غزوت فيها المقاهي او بعد كل حملة حاولت المدينة فيها ان تنظف شوارعها من الغزاة الجدد.

اتذكر ان الرسام ايوجين دولاكروا كان الى جانب تحريم دخول الفلاحين الرعاع كما كان البلاط الفرنسي يدعوهم، وكان يرى ان هؤلاء انما يشوهون وجه باريس ويلوثون رونقها السامي.

في المقهى ولد فن آخر وولد ادب آخر، عابر للأجناس والأقوام والأصول، لم يلتفت الى جوائز الدولة الممنوحة للسلالات الموالية للبلاط ولم يتوقفوا ليحصلوا على وثائق انتماء لقبائل المجد الحكومي. ولم يتشرفوا بالعطايا ولا بالألقاب. تجاوزوا اللون والقومية والعرق ليطفئوا لهفتهم الى نسمات حرة من نسمات انسانية بريئة ونزيهة ومتمردة وليسهموا في تمجيد الحرية والوجود.

مع الحرب العالمية الثانية وجد ما يكفي من المتسع لقبول المصالحة مع المقهى وشبابها واجيالها.. فالحرب النازية التي دمرت المدن تدميراً شاملاً لم تترك للكبار المتغطرسين ما يفتخرون به امام ادباء وفناني ومثقفب الهامش.. في الحقيقة تلاشى اثر المركز وتصاعد دور الهامش بعد ان ولغت النازية وخصومها بدم الحضارات والواقع واضحت اكثر هشاشة امام الهامش مما سبق.

من هذا الرحم خرج البير كامو، وجان بول سارتر، وسيمون دي بوفوار، وصموئيل بيكيت، وعناقيد السرياليين العابرة للقوميات وانضم اليهم نمط اخر من العباقرة المقبولين من العالم ليشكلوا اعترافاً صارخاً بقوة الهامش، بقوة الرصيف وسطوته وافكار اهل الرصيف العجائبية.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة