محيي المسعودي
قبل الانفتاح في دول الخليج العربي وخاصة في السعودية كانت المجتمعات مخبوءة في تقاليد ومظاهر وتابوات تمنع المراقب عن بعد، معرفة ماهية هذه المجتمعات وخصوصيتها وتفاصيل حيواتها، ومع كل هذا التعتيم والحراسة المشددة على بوابات الدخول لهذه المجتمعات أو الخروج منها، بما يكشف خصوصية الحياة في داخلها، أقول مع كل هذه الحراسة المشددة خرجت من السعودية – وهي مركز التشدد” أصوات روائية آنذاك كشفت خفايا وأسرار ذلك المجتمع، والأغرب أن هذه الأصوات نسائية أي من عمق الحياة السعودية وخصوصيتها، فجاءت روايات كثيرة منها رواية ( بنات الرياض) للروائية رجاء الصانع ورواية ( ملامح) لزينب حفني والتي سوف نتحدث عنها في هذا المقال.
فما الذي جعل من رواية (ملامح) للسعودية زينب حفني أن تحدث وقعاً مدوياً بين الأوساط الثقافية والاجتماعية العربية في حينه؟ وما الذي دفع ب (الرواية)الى أن تكون مطلوبة للقراءة وبإلحاح ورغبة من قبل المجتمع السعودي والعربي؟ قبل الإجابة عن هذا السؤال تجدر الإشارة إلى أن حفني لم تكن الوحيدة في دول الخليج والدول العربية التي كتبت بهذا الأسلوب وأثارت الضجة حول كتاباتها، بل هناك مجموعة من الروائيات والقاصات العربيات اللواتي زامنّ حفني أو سبقنها في هذا الكتابة، نذكر منهن عالية ممدوح وليلى العثمان وأحلام مستغانمي ورجاء عبد الله الصانع صاحبة رواية بنات الرياض – تلك الرواية التي أحدثت أيضا الوقع الأكبر لدى القراء والساسة معاً. ولكي نحدد الإجابة على السؤال السابق تجدر الإشارة مرة ثانية إلى أن الكاتبات العربيات هن أكثر إثارة من الكتاب بسبب النظرة السائدة في المجتمع العربي حول المرأة، باعتبارها – حرم الرجل وشرفه (أي ملكه) وليس شريكته التي لا تقل إنسانية وفعلاً عنه، والتي لا يجب أن تقل حريتها وحقوقها عن حقوقه وحريته مع احتساب خصوصية جنس الانثى .. وبسبب هذه النظرة التراكمية حول المرأة، أصبحت أشبه بالتابو لا يجوز فتحه ومعرفة أشيائه وأسراره وبالتالي لا يحق للمرأة الحديث، فكيف وهي تتحدث عن تابو أشد حرمة وسرية ألا وهو – الجنس – من هنا تظهر ملامح الإجابة على السؤال وتبدو مبرراً لإقبال القراء على ما تكتبه المرأة حول ذاتها وعلاقتها بالرجل والمجتمع.. وإذا كان حال المرأة العربية بشكل عام هو على هذه الشاكلة فإن حال المرأة الخليجية والسعودية خاصة أكثر تعقيداً ” وتابوية” آنذاك، وإن مجرد المرور عليه في الأمور العامة يجب أن يكون مروراً حذراً يتجنب خصوصيتها , وفي ظل هذه الحال بالنسبة للمرأة الخليجية ومجتمعها المغلق عليها باتت الصورة الحقيقية لتلك المجتمعات مغيبة – قسراً – وغابت عن المشهد مشاكل ومشاعر ولواعج وأفكار وسلوكيات المرأة التي تشكل نصف مجتمعها في كل شيء إلا في الظهور للعيان والتعبير عن ذاتها – إذاً الكتابة النسوية – أي كتابة المرأة عن نفسها ومجتمعها هو أول الأسباب التي صبت في نجاح رواية (ملامح) للروائية زينب حفني حين صدرت وشاع خبرها. والسبب الثاني هو مجتمعها أي المجتمع الخليجي – السعودي – الذي يثير الحديث عنه شهية القراء والفضوليين لمعرفته والوقوف على أسراره وخفاياه، خاصة وأن البعض من العاملين العرب عايش ذلك الواقع الاجتماعي وعرف عنه الكثير، ولكن الخطاب العام في السعودية ينكر كل ما هو مخالف لعاداته وتقاليده.. والسبب الثالث وهو الأهم ليس على مستوى مجتمعات الخليج بل على مستوى العالم أجمع – ويتمثل بالكتابة التي تتخذ من السيرة الذاتية شكلاً أو مضموناً، أسلوبا لها.. ولو عدنا إلى رواية (ملامح) سوف نرى هذه الأسباب حاضرة أولها: إن الرواية كتب أغلبها بضمير – الأنا – الأنثوي ناهيك عن الروائية نفسها والتي تشكل الأنا الأعلى، ونلمس في الرواية خصوصية المجتمع السعودي وبعض تفاصيل حياته الرئيسة، نعرف طبقاته الاجتماعية من الفقراء وحتى الأثرياء.. ونعرف نواميس العلاقة الاجتماعية والأسرية التي لا تختلف كثيراً عما في المجتمعات العربية وخاصة علاقة أبوي ثريا – بطلة الرواية – ندرك أن المجتمع السعودي مثله مثل كل المجتمعات العربية – تقريباً – في التقاليد والعادات والسلوكيات.. ومثله مثل كل مجتمعات العالم في قضاياه الإنسانية من حب وكره وفقر وغنى وكذب وصدق وسمو ووضاعة وغيرها من الثنائيات.. اذن ما الذي جاءت به الروائية حتى أحدثت كل هذا الدوي بروايتها (ملامح)؟ نستطيع أن نختزل الإجابة بعبارة – كسر المحظور – على جميع المستويات وكسر المحظور يعني كشف المستور وتجاوزه على مستوى الأحداث والوقائع السرية وعلى مستوى الذات التي قامت بهذا العمل – أي المرأة الكاتبة- التي يعتبر حديثها في أمور اقل خطورة من هذا ممنوعاً ومحرماً اجتماعياً ودينياً, فما بالك والحديث عن الجنس والشذوذ وسواه . وهذه هي عقدة موضوع كتابة الرواية وتداعياتها في الأوساط الاجتماعية والثقافية والفكرية وهذا ما جعل منها محطاً للاهتمام الكبير، أما عقدة موضوع الرواية فتتمثل في كشف (الشذوذ الجنسي والاجتماعي) في مجتمع محافظ لم تعرف عنه وبه تلك السلوكيات كممارسة أو كظاهرة يتم الحديث عنها بشكل صريح ومباشر.
نقطة انطلاق الشذوذ الاجتماعي – كما يصفه ذلك المجتمع – تبدأ من أول الرواية متمثلة بثريا – الفتاة المراهقة التي تعيش في أسرة – شبه فقيرة وبينما نجد أسرتها راضية بواقعها ومتعففة بعلاقاتها, تظهر لنا تلك الفتاة طموحة جداً في النظر إلى حريتها, وإشباع غرائزها الجسدية والحصول على حاجياتها المادية ونلمس هوسها لبلوغ الثراء وازدرائها للحياة المستكينة المحدودة الموارد والحريات, ومع إن اللاوعي لدى ثريا مستسلم للقدر والتقاليد، إلا أنها لا تريد هذا القدر، وهي تسعى إلى تحقيق رغباتها من وراء ظهر المجتمع – في السر – على الأقل في البداية عندما ذهبت مع صديقتها نور لتلتقي بفؤاد وتتذوق معه طعم الشهوة الأنثوية ويظل اللاوعي مؤمناً بأن السرية هي الباب الوحيد لبلوغ الغايات. وهذا ما يمكن تحقيقه في مجتمع محافظ.. وينتقل الشذوذ الاجتماعي إلى الرجل حين يوافق زوجها حسين على أن تكون طريقه لبلوغ مناصب أعلى في وظيفته، ومن ثم في أعماله التجارية. هذا السلوك الاجتماعي من قبل ثريا وزوجها حسين حطم المنظومة الأخلاقية الاجتماعية لمجتمع يرى أن هذا السلوك، سقوط أخلاقي اجتماعي في غابة القبح والحرام والوضاعة، وهو على أية حال – مرفوض في كل المجتمعات الإنسانية، وإن وجد في بعضها مكشوفاً ولكنه في مجتمع ثريا لا يسمح حتى بكشفه.. وتشكل حياة ثريا وحسين محوراً تدور حوله الأحداث الأخرى التي تكشف صورا وحالات اجتماعية متباينة ومختلفة ولكن الرواية لا تقدم صورة مكتملة للفضيلة في كل الأحداث.. حتى مع فؤاد الذي مثل صورة أقل بشاعة، فقد كان يخون زوجته التي يحبها ويحترمها حد التقديس خانها مع صديقة شبابه – ثريا- التي لم يكرهها طوال حياته.. وظلت الأحداث تدور حول حيوات الشخصيات التي تحيط بثريا وحسين وقدمت الرواية أنواعا من السلوك الاجتماعي المستهجن والمرفوض كالعلاقة المثلية بين النساء وصورت الرواية تفاصيل هذه العلاقة وحاولت تقديم الأسباب التي كانت وراءها عندما تعرضت للعلاقة بين ثريا وهند، والأخيرة عندما كشفت عن علاقتها مع صديقتها إقبال منذ أيام الثانوية وهكذا دخلت الرواية في عالم “المثلية” هذا العالم الذي يثير شهية القراء لكشف تفاصيله وأحداثه وأسراره.
وقدمت الرواية الفناء الخلفي للمجتمع السعودي ذلك الفناء الغرائبي المليء بالتجاوزات على الشكل العام للمجتمع ومنظومته الاخلاقية ودون أن تعير اهتماماً يذكر للجوانب الطبيعية والحالات السليمة فيه.. وقد اتخذت الرواية الجانب الذاتي – الفردي – في حديثها عن الحياة وتفاصيلها حتى كأنك وأنت تقرأ أمام اعترافات أو سير لنساء ورجال هم غير سويين، وأكدت الروائية هذا الجانب من خلال ضمير المتكلم الذي تقمصت به كل شخصياتها وجعلتهم يتحدثون عن حيواتهم بأسلوب لا يترك لك إلا تصديقهم.. وثمة إشارة تركتها الكاتبة من خلال الأسماء والأحداث تقود القارئ الواعي إلى أن أحداث الرواية وقعت بين شرائح اجتماعية ذات لون واحد ومتقاربة في الاعتقادات أو ربما ثقافة الروائية وخلفيتها الاجتماعية هي من ترك تلك الإشارة دون قصد أو حال حقيقية واقعية.