رائد وحش
ثمة أفكار شديدة السذاجة تحوم حولنا لكننا لا نمعن النظر فيها لأنّ شيوعها يوحي أن ثمة إجماعًا عليها، أو أنها واقعة ضمن نطاق البديهيات. منها فكرة تتردّد طوال الوقت، وتعود إلى زمن بعيد أغلب الظن، تقول إن الشعر فنّ شخصيّ. ولأنّ أصحاب هذه المقولة لا يقدمون توضيحات تضيف دلالات إلى المعنى الخام في العبارة فإنها تُفهم على أن الشعر يجب أن يكون مشغولًا بذات صاحبه، بتفاصيل حياته وعلاقاته وهمومه وأحلامه.. إلخ.
لا شكّ في أن الفن في عمومه ذاتيّ وشخصيّ كونه يصدر عن أفراد يرغبون في مشاركتنا فكرة أو شعورًا أو طريقة في النظر أو حكاية، من دون أن يعني ذلك أنهم يحتاجون إلى تكسير جدران منازلهم ليجعلونا نشاهدهم في المطبخ والحمام، في الصحو والنوم، في لحظات الغضب أو الملل، فالأفعال الحياتية لا تعني شيئًا إبداعيًّا بحدّ ذاتها، سواء كُتبت أو فُعلت، بمقدار ما تأخذ معناها من وضعها في نظام فني جديد، ضمن سياق فكري ذي لمسة إبداعية.
نقف بين شاعر يريد تقديم ذاته، كما هي في الحياة اليومية، بأفعالها وأشيائها، وآخر يسعى لجعل حكايته ملأى بما لا تستطيعه حياة واحدة، فيضغط الحدث ويكثف المعنى، من أجل أن يأخذنا إلى حياة من اقتراحه، لها طعم مختلف عن حياتنا، أو يمنحنا عيونًا جديدة نرى فيها حياتنا وكأننا لم نرها من قبل. كأننا نكتشفها بسبب ذلك.
أمام هذا الإشكال تصبح فكرة الفن الشخصي، في الشعر كما في غيره، فكرةً خادعةً إلى أبعد الحدود، كونها تحوّل صاحبها إلى مجرد ناطق يعرض علينا ما يرى ويسمع ويلمس، أي أنها في العمق تشبه عملية عرض ألبومات صور خاصة، وهو أمر يقارب واقع السوشيال ميديا من حيث إنها منصة لعرض أشياء كتلك، لكن تسميتها الواضحة والصريحة بـ»المنصة» تجعلها وسيلة لا غاية، وسبيلًا إلى شيء وليس الشيء ذاته، وهذا بالضبط ما يجعل من الكتابة الشعرية ضمن هذا الهمّ أقرب إلى عرض أشياء من الحياة، لا الحياة نفسها.
تحتاج هذه المسألة إلى كثير من البحث والتأمل، إلا أن جزءًا منها قادم من تنظير طويل ظهر في الحداثة عن ضرورة عزل الشعر عن الثقافة، وعزل الثقافة عن الفكر، بحجة أنه معنيّ بأحوال الإنسان الفردية بالدرجة الأولى، لكن الذي يحدث أن الشعراء الذين يؤمنون بهذا المبدأ ينتجون نصوصًا تقع في سياق لا يعبّر عن الذات الإنسانية بذاتها وحقيقتها، بمقدار ما يعبر عن خلل جوهري هو الانفصال الحاد بين العقل والجسد، في سياق رأسماليّ يعمل بدأب على تعزيز هذا الفصل لما يسهّله ذلك من تيسير عملية السيطرة على البشر، أفرادًا ومجتمعات، من أجل تمكين النظام وضمان استمراره، وكلمة السرّ في ذلك تكمن في الوصول إلى نوع نموذجيّ من البشر: الزبائن!
الشعر نهر عملاق يصبّ في محيط الفكر في آخر الأمر. تلك هي صورته كما الفنون جميعها. لأن ما يريده هو أن تمضي المعاني والأفكار والمشاعر والخيالات التي ولّدتها القصائد لكي تكون جزءًا من فهم البشر لأحوالهم ومعاشهم ومجتمعهم وعالمهم. يصدر الشعر عن الفرد لكن جهده يقع في المجتمع، كما يقع في الطبيعة، لهذا ستظل الكتابة الشعرية كتابة عن الفرد في سياقه الأصليّ، أي ككائن ومواطن، مهما اختلفت مواضيعها وتقنياتها، أما تلك التي تطمح إلى التخصص بالفرديّ بذاته، والابتعاد عن كل ما عداه فليست سوى استمرار للمساهمة في فصل الإنسان عن فضائه، وانتزاعه من سياقه الأصلي.
*عن ألترا صوت