جمال العتّابي يقرأ من داخل المكان زمنا عراقيا
شكيب كاظم
استأثر المكان باهتمام الفلاسفة والروائيين والنقاد، ومنهم الفيلسوف الفرنسي الظاهراتي كاستون باشلار في كتابه الممتع والمفيد (جماليات المكان)، كما اهتم بالمكان اهتماماً بالغاً وأعطاه قسطاً وافراً من منجزه النقدي الباهر، ناقدنا العراقي الكبير ياسين النصير، ومنها كتابه (الرواية والمكان) بجزأيه و(المكان في قصص الأطفال) وقد جمعها وأصدرها في كتاب واحد عاداً إياها مدخلا إلى النقد المكاني، فضلاً عن درسه المكان في الرواية والشعر والتشكيل والفلسفة، مما جعله أكثر تخصصاً في هذا المجال، أما الدكتور مالك المطلبي فقد حرث في الوعي المهمل، وهو يترجم لنا العيش في المكان، في ناحية الحلفاية؛ ناحية المشرح رسمياً، والعمارة وبغداد في كتابه الماتع المفيد (ذاكرة الكتابة. حفريات في اللاوعي المهمل) كما كتب في هذا الموضوع الشاعر الأنيق حميد سعيد- خفف الله وطأة الغربة عنه- بكتابه المكثف (المكان في تضاريس الذاكرة)، ومن الذين احتفوا بالمكان روائياً وقصصياً، القاصان والروائيان ناطق خلوصي، وحنون مجيد.
وإذ كتب المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد، مذكراته؛ سيرته الذاتية (خارج المكان) وامتعنا بها مترجمة إلى لغة العرب، المترجم الضليع الأديب فواز الطرابلسي، فإن الأديب العراقي والمنشىء الأنيق جمال حسن العتّابي ، قدم كتابه (داخل المكان) فكان سياحة رائعة وممتعة في الذاكرة العراقية، والمكان العراقي، لا بل تعداه إلى المكان الأوربي، على مدى نحو نصف قرن من الزمان العراقي العاصف، إنه تدوين لما قد يهمل تدوينه التاريخ، إنه تأريخ لما يمكن أن يغادره التاريخ، إنه توثيق لهذا الزمان والمكان العراقيين، يقدمه الكاتب الأديب جمال حسن العتّابي لنا نحن قراءه، والأجيال التي تأتي من بعدنا، كي يتعرفوا على حوادث وقضايا، فضلاً عن أسماء مهمة على الصعد كافة، منها من اسعفها الدهر فوقف عندها، ومنها من غمطها حقها، أو هي غمطت حقها في البقاء والديمومة بالذاكرة الجمعية للأفراد.
وإذ أرّخ الروائي الكبير عبد الرحمن منيف لمدينة عمان، التي شهدت ولادته وطفولته وصباه، مستذكرا تلك الأيام متحدثاً عن ( رأس العين) الذي كان مثابة للناس وأمنا؛ للقادمين إلى المدينة أيام تكونها الأولى، سوقا شعبيا وملتقى، هذا البوح الاستذكاري الشفيف، صبه منيف في سيرته؛ سرده الذاتي (سيرة مدينة) التي ترجمت إلى سبع لغات أوربية، يوم اختارتها اللجنة الأوربية للثقافة، لإبقاء المدينة بصورتها الماضية، في ذاكرات الأجيال الحالية، والأجيال اللاحقة، فالمدن تتغير باستمرار، فإن جمال العتّابي أرّخ لمدن عراقية عدة، ولاسيما مدينة الحرية ببغداد.
تقرأ هذا الكتاب الذي وسمه جمال العتّابي بـ(داخل المكان. المدن روح ومعنى) وقدمه الدكتور أحمد الزبيدي بمقدمة معرفية ضافية، سامية لغة ومضمونا، تقرأ عن أماكن وقرى ومدن وبلدات في الجنوب العراقي، حيث ولد الأب حسن العتّابي ، المعلم المتخرج في دار المعلمين الريفية، وتخرج في هذا الصرح العلمي الرصين، يوم كانت الدولة المدنية الدستورية تبنى بهدوء بعيدا عن كارثة حرق المراحل، تخرج في هذا الصرح نخبة من الرجال الذين قادوا العملية التعليمية والتربوية بمهنية عالية ومقتدرة، حسن العتّابي المعلم في مدرسة الدواية إلى جانب عدد من المعلمين: عبد چياد العبودي، وعبد الحسن عيسى، وجواد كاظم الجويد، الأب الذي إلتزم خطاً سياسياً ما حاد عنه، وجعلته دولة الجمهورية الأولى يدفع ضريبة باهظة، فسجنه مجلسها العرفي العسكري الأول، الذي لا يعرف للاستئناف والتمييز ومحامي الدفاع معنى، كما أوقفت دولة (الثورة الخالدة؟!) ابنه جمالاً الطالب في الدراسة الثانوية، أثناء التحضير لانتخابات نقابة المعلمين سنة ١٩٦١.
يقف جمال العتّابي في كتابه هذا عند مجتمع بدأ يتحضر ويتقدم، قبل أن تعصف به الفوضى والمنون، يتحدث عن مكتبة الوجيه المثقف عبد الحميد الناصر في مدينة الشطرة؛ (مكتبة الغراف)، يذهب إليها المعلم حسن العتّابي ، إما مشياً على الأقدام، أو على ظهر فرس، لا بد أن يصل الشطرة كي يتصل برفاقه، ويعود محملاً بالأسرار والكتب والمجلات، (الآداب) ، و(الأديب)، و( العلوم)، و(الرسالة)، و(الهلال)، و(الكواكب)، و(المصور)، و(آخر ساعة) وروايات نجيب محفوظ، ودستويفسكي، وتولستوي، وشولوخوف، وكتب طه حسين وسلامة موسى وجورج حنا وجبران، يترقب زملاؤه المعلمون عودته من الشطرة، كي ينهلوا مما أغدقه عليهم زميلهم ابو جمال.
يحدثنا جمال العتّابي، بعد أن غادرت الأسرة نحو بغداد وسكنت مدينة الهادي، التي تعود أرضها للوجيه البغدادي عبد الهادي عبد الحسين الچلبي، فغير إسمها بعد ٥٨ إلى مدينة الحرية، ويقدم لنا صورا قلمية نابضة بالحياة، واقفا عند ملاعبها الرياضية ومقاهيها ومدارسها وتضاريسها وامكنتها، إنه يؤرخ لمدينة الحرية كما أرّخ للغازية والدواية وسويج شجر والعكيكة والشطرة، يقف بأسى عند الشاعر الذي تطوح به الأيام زهير الدجيلي، يدفع عربة يبيع الباقلاء لرواد ساحة كرة القدم! كما يحدثنا عن مقهى الساقية حيث يؤمه جمعة اللامي، وفوزي كريم، وعبد الستار ناصر، ومقداد عبد الرضا، وعبد القادر العزاوي (قدوري العظيم) الخباز الشاعر الخارج تواً من سجن نكرة السلمان، عن فرات المحسن الذي كان له فضل تحفيزه على الكتابة، بما كتب فرات عن مدينة الحرية؛ المدينة التي عاش شبابه فيها، كانت الوطن الأجمل، ونشيد الصبا، والحكايات التي لا تأفل، قبل أن تتبعثر الأحلام، وتتوارى الأماني، عن شقيقته فاطمة المحسن؛ الصحفية والكاتبة التي لم تنل منها الريح، غادرت العراق ونالت مكانتها في بلدان الاغتراب، بحثاً وكتابة جادة، عن (جيان)؛ فؤاد عبد المجيد بابان، القاص والروائي الذي غادر هو الآخر نحو براغ وما زال يحيا هناك، عن الفنان الكاتب عارف علوان الذي زامله في (مجلتي) و(المزمار) المجلتين المخصصتين للأطفال واليافعين، إلى جانب رئيس تحريرها (إبراهيم السعيد)،عارف الذي كان يستشرف المستقبل بعين نبوئية متنبئة، والذي قرر الهجرة بعد أن جُزّ شعرُه وشعر الكثير من شباب تلك الأيام (١٩٧١) بحجة التشبه بـ( الخنافس) وهي فرقة غناء بريطانية كان أعضاؤها يطيلون شعر رأسهم وتعرف بالإنكليزية (فرقة البيتلز) ومن أشهر أفرادها (جان لينون) الذي مات ميتتة مأساوية، فضلاً عن طلاء سيقان الفتيات اللائي يلبسن ملابس قصيرة، وما زلت أتذكر مقالة الصحفي المعروف وقتذاك (جعفر ياسين) المدوية في جريدة (التآخي) خريف ١٩٧١ حين جز شعره، وعلى إثرها غادر الصحافة والكتابة، وتحول إلى الأعمال الحرة التي درت عليه خيرا وفيراً.
عارف علوان الذي آلمه قص شعره، قال لجمال زميله: ستكون أيامكم صاخبات، تذكر ذلك يا جمال، لأنني سأغادره، وأدع الوطن بانتصاراته الكاذبة غارقاً في وهم أمجاده الغاربة، وداعاً.
عن رشاد مهدي الهاشم، العائد من فرنسة مكتنزاً بالعلم، يأخذ موقعه اللائق به في إحدى الجامعات العراقية، ما عتم أن غادر راحلاً إلى أقصى القارات، فضلاً عن شقيقه الأكبر الباحث صالح مهدي الهاشم، الذي غادر هو الآخر، عن حسين الهنداوي الذي اختار الرحيل، عن رياض عيسى غيدان؛ الاقتصادي والكاتب والروائي، الذي غادر اسمه كما غادره علي أحمد سعيد اسبر (أدونيس) رياض عيسى أختار اسما له (رياض رمزي).
العتّابي يسرد علينا- كذلك- شيئاً عن رسام الكاريكاتير المدهش بسام فرج، عن الفنان قيس يعقوب؛ زميله في مجلة الأطفال (مجلتي) الذي ما زال يحلم ويتخيل، وفي عقله تستمكن صورة زاهية للعراق، هو واثق من أن كل ما أصابه من تشوه سيزول!
عن رضا الأعرجي، الذي كنت أتمتع واستفيد من قراءة نقده السينمائي والتلفازي من على صفحة (آفاق) في جريدة (الجمهورية) كان عازما على الرحيل، فرحل.
عن عبد الأمير الحبيب؛ المحرر في مجلة (الثقافة الجديدة) والذي كان قد عاد تواً من الجزائر، الذي غادر الحياة الدنيا سراعاً.
عن الشاعر الخمسيني محمد النقدي، الذي صمت واعتزل الناس كما صمت الشاعر علي جليل الوردي، وطالب الحيدري وسواهم الكثير الكثير.
الأديب الكاتب جمال حسن العتّابي في كتابه هذا (داخل المكان. المدن روح ومعنى) يؤرخ- كما قلت آنفاً- لنحو نصف قرن من الزمان العراقي، منذ خمسينات القرن العشرين، قد حباه الله بذاكرة نابهة لا تكاد تغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصتها ودونتها، تردفها موهبة الإنشاء الأنيق الرشيق كثير الماء والرواء، على لغة جدنا الجاحظ الكبير؛ أمير البيان العربي، لذا كانت متعة أن تقرأ هذه الفصول، تكاد لا تدانيها متعة، على الرغم من الأسى الذي يكتنف هذه الفصول.