أوس حسن
رغم التطور التكنلوجي والعلمي للحضارة الإنسانية؛ إلا أننا ما زلنا نقرأ ونشاهد محتويات على وسائل التواصل الاجتماعي والميديا مفتونة بصناعة الخرافات، ونرى أن هذه المحتويات تحظى بنسبة عالية من المشاهدات، أكثر من المحتويات العلمية والثقافية، ذات الجدة والرصانة، دفعتني هذه الظاهرة إلى التقصي والبحث في بعض الأسباب، ومتابعة بعض المفتونين بالظواهر الغريبة كقصة نهاية العالم، والحروب في آخر الزمان، ورؤية الأشباح والكائنات الغريبة عن عالمنا، ولم يكن بحثي علميا ً خالصا ً لسببين أولهما: ..هو أنني كنت أنا شخصيا فيما مضى مولعا ً بهذه الأمور لدرجة الهوس واللامعقول، والسبب الثاني هو أنني أردت أن أبقي خيطا ً خفيفا ً من الوهم الذي يرتقي بي فوق العالم الحسي والفيزيقي، علما ً أن الكثير من أصحاء العقول والواعيين شاهدوا أشياء غريبة، وحدثت معهم قصص وحكايات لا يمكن أن يصدقها الواقع أو المنطق البشري، وتواصلت أنا شخصيا ً مع أناس لديهم قدرات ذاتية خارقة فوق قدرات البشر العادية، وكنت أنتظر أن يأتي ذلك اليوم الموعود الذي يكتشف فيه العلم هذه الظواهر ويضعها تحت خانة قوانينه التي لا تقبل الخطأ مطلقاً.
لكن السؤال الآن: ما لذي يدفع العقل البشري لصناعة الأسطورة وتصديقها، ثم ترويجها للعالم على أنها حقيقة ؟
يكمن السبب على الأغلب في أن العقل الغريزي عند الإنسان هو عقل بدائي جدا، لم يتطور رغم تطور الملامح الحضارية على هذا الكوكب، والعقل الغريزي يتجلى بوضوح عند الإنسان في الحلم، فالإنسان في الحلم يعود لطبيعته البدائية الأولى التي كانت ترى في الطبيعة وظواهرها من رعود وأمطار وزلازل وبراكين، مصدر رعب شديد، لذا لجأ الإنسان البدائي إلى ابتكار الآلهة وطقوس التعبد لها، من أصوات وتراتيل وحركات جسد خاصة، فالإنسان على مر العصور كان يحتاج إلى قوة خفية تحميه من شرور الطبيعة ومآسيها، وتدريجيا ً نشأت الأديان كحاجة ضرورية وملحة تنظم علاقة الإنسان مع الإله.
يقول الفيلسوف وعالم الانثروبولجيا الألماني لودفيغ فيورباخ :” إن شعور الإنسان بالتبعية هو أصل الدين، لذلك فإن ارتباط الإنسان بالطبيعة هو أصل جميع الأديان، والإنسان يسد جميع ثغراته المعرفية والعلمية إلى وجود كائن متخيل يتحلى بصفات اللامحدودية والقوة والخلود. وهذا الكائن ليس إلا الجوهر المجرد للطبيعة، أو الطبيعة المجردة للفكر، ولذلك فإن اشتقاق الطبيعة من الله ،ليس إلا اشتقاق الجوهر المادي للطبيعة من جوهرها التخيلي الموجود في تفكيرنا”.
تلعب العادة والتكرار، والانطباعات الأولية للأفكار دورا ً كبيرا في ترسيخ الموروثات والعقائد في العقل الجمعي ،فبدلا من أن يلقى الإنسان مذعورا في العراء، تتلقفه فكرة الدين لتبث في نفسه السلام والطمأنينة، والأمل بحياة أخرى بعد الموت، فيصبح لحياته معنى وهدف، لكن محنة الإنسان الحديث تزداد يوما ً بعد يوم في غربته وانفصاله عن ذاته الحقيقية، وتجعله في مواجهة مخيفة مع نفسه والطبيعة، ومثلما نقش أسلافنا الأوائل حكاياتهم على جدران الكهوف مازلنا نحن نحاول الانعتاق من أغلال عالمنا المحمل بالرعب والمآسي عن طريق خلق أوهامنا وأساطيرنا الشخصية، لكن لا وهم أجمل من وهم فنان أو شاعر يجعل الخيال ممكنا وحقيقيا في الواقع القاسي، ولا أجمل من حياة تحكمها المخيلة اللامحدودة، حتى وإن كانت سرابا ً من الأكاذيب والأوهام
يقول الشاعر الروسي بوشكين :
” رُبَّ وهم يسمو بالنفس
خيرٌ من ألف حقيقة دنيئة”