بعد عقد من قمع الثورة ضد الدكتاتورية في سوريا
نائل شما *
لم تمضِ إلا أسابيع قليلة حتى واجه الأسد انتفاضة سورية أظهرت مدى انفصاله عن الواقع. واليوم، بعد مرور عقدٍ على انطلاق الاحتجاجات في سورية، لا يزال من الجائز التساؤل عن أسباب إغفال الدكتاتور السوري بوادر ضعفه. تعليق المحلل السياسي نائل شما.
السوري بشار الأسد قد انتصر. فهو لا يزال في سُدة الحكم، والنزاع السوري يشارف على الانتهاء، كما تتزايد الجهود المبذولة في العالم العربي لتطبيع العلاقات مع النظام السوري. ومع أن معدّل العنف الممارَس في سورية انخفض على الأرجح بعد عشر سنوات من الدمار، هل من الدقيق القول إن الأسد غيّر أسلوبه في الحكم؟ وهل بدّلت الأحداث الجسام التي شهدتها سورية رؤيته حيال جوهر السياسة؟
للإجابة على هذين السؤالين ، لا بدّ من العودة بأذهاننا إلى الشرارة الأولى للانتفاضات العربية. ففي أوائل العام 2011، وحتى بعد أن نجحت موجات الحراك الاجتماعي، في غضون أسابيع قليلة، في الإطاحة برئيسين سلطويين دام حكمهما طويلًا، أعلن الأسد أن تلك الأحداث لا تؤثّر على سورية. وأخبر صحيفة وول ستريت جورنال أن «سورية مستقرة»، مشدّدًا أن بلاده هي «خارج كل ذلك»، في إشارة إلى ما شهدته تونس ومصر.
ولم تمضِ إلا أسابيع قليلة حتى واجه الأسد انتفاضة سورية أظهرت مدى انفصاله عن الواقع. واليوم، بعد مرور عقدٍ على انطلاق الاحتجاجات في سورية، لا يزال من الجائز التساؤل عن أسباب إغفال الدكتاتور السوري بوادر ضعفه. وتتبادر إلى الذهن عوامل ثلاث تشرح هذا الانفصال.
البطولات الهزلية للأسد
العامل الأول هو أن عائلة الأسد لم تدرك أن سيطرتها المفرطة أضعفت قدرتها على معرفة الديناميكيات الداخلية للمجتمع السوري، ما أعاق بصيرتها. فالسياسة عملية ديناميكية تنطوي على التعبير والتفاوض والنزاع.
وبحلول العام 2011، كان قد مضى على منظومة السيطرة المُحكمة والمعقّدة التي فرضها الأسد الأب ثم الابن أكثر من أربعة عقود، استطاعت خلالها أصابع النظام من التغلغل في جميع جوانب المجتمع. فمن خلال إحكام النظام قبضته على هياكل السلطة والأجهزة الأمنية والأحزاب السياسية والمجالات العامة، وضع كل جوانب السياسة المرئية تقريبًا تحت سلطته الصارمة.
والمشكلة في ذلك هي أن عائلة الأسد لم تدرك أن تقييد الحياة السياسية بهذا الشكل دفع هذه النقاشات إلى أماكن أكثر ضبابية وغموضًا، إذ تحوّلت الآراء والخلافات من السياسات الحزبية والمداولات البرلمانية ووسائل الإعلام إلى أحاديث ونقاشات خاصة كما برزت أشكال خفية من المعارضة. يشير هذا إلى أن الحقائق الصغيرة تعبّر عن قضايا كبيرة، « فالغمزات يمكن أن تعبر عن نظرية المعرفة وغارات الأغنام قد تعبّر عن الثورة»، بحسب عالم الأنثروبولوجيا الثقافية كليفورد غيرتز. ففي عهد الأسد الأب والابن، كل حذف في الكلام، أو عبارة مجازية، أو إيماءة خيبة، أو زفير للغضب، أو حتى الصمت أصبح أبلغ إنباءً من الكلام للتعبير عن هموم السكان وجذور استيائهم.
لكن بشار الأسد، من علياء قصره المطلّ على دمشق، رأى مشهدًا مختلفًا. فقد قرأ في الصمت ولاءً له، وفي الرقابة الذاتية قبولًا وإذعانًا. وإن دلّت انتفاضة آذار/مارس 2011 على شيء، فإنما دلّت على قراءته المغلوطة للواقع.
لماذا لم يكن بشار الأسد مستعدًا إطلاقًا لانتفاضات الربيع السوري؟
يوضح العامل الثاني سبب فشل الأسد في تلمّس المزاج العام السائد في البلاد. فالسوريون لم يخفوا فقط تفضيلاتهم الحقيقية في وجه الضغوط السياسية، بل عمدوا أيضًا إلى تزييف ردود فعلهم في الكثير من الأحيان وتظاهروا بأنهم يدعمون النظام. وقد أطلق الخبير الاقتصادي تيمور كوران على هذه الممارسة اسم «تزوير التفضيلات»، بمعنى تصنّع الابتسامات أو المجاملات في سياق المناسبات الاجتماعية الخاصة. أما في سياق الأنظمة السلطوية، فتأخذ هذه الممارسة أبعادًا أكبر.
من المُلفت أن داعمي الأسد الأب والابن ومنتقديهما على السواء يعتبرون أن النظام السوري شيّد حكمه على استراتيجية الخوف. ففيما أطلق منتقدو النظام على سورية اسم «جمهورية الخوف»، سعى النظام إلى الحفاظ على ما سمّاه «هيبة الدولة»، بما ينطوي عليه هذا المفهوم من قمعٍ ورعب. وبين العامَين 1970 و2011، جرت مأسسة سياسة الترهيب في البلاد. وهكذا، اكتسب السوريون موهبة الصمود والبقاء، مختارين إما السير مع التيار، أو التقوقع على الذات، أو العيش في حالة من المنفى الذهني، أو ادّعاء الولاء للنظام.
وقد أحسن أبو العتاهية، أحد الشعراء المخضرمين في العصر العباسي الأول، توصيف هذا الواقع قائلًا: «وإن ضاق عنكَ القول فالصمتُ أوسعُ». وهكذا، عاش السوريون في دوامة من الصمت قبل العام 2011. لكن الصمت هو غالبًا علامة الصبر أكثر مما هو علامة الرضا والإخلاص. ولأنه يشكّل عبئًا على كاهل الأفراد، فهو لا يدوم إلى الأبد.
لكن بدلًا من القراءة بين سطور الصمت، انكبّ النظام على تكريس نمط عبادة شخص الرئيس الأسد والتوق إلى حكمه الأبدي تحت شعار «الأسد إلى الأبد». لكن من السهل رؤية كيف أدّى هذا التزلّف إلى الغطرسة.
أما العامل الثالث فيشير إلى اتّساع هوة التفاوت بين الواقع والخيال مع مرور الزمن. واقع الحال أن نظام الأسد عانى بسبب طول عمره، فحاصره الزمن. فكلما طال بقاء الحاكم السلطوي في السلطة، زاد اعتماده على زمرة من المقرّبين والمتزلّفين الذين يشاركونه آراءه وأوهامه. وهذه الدائرة الضيقة التي يحيط بها الحاكم نفسه تحدّ من انفتاحه وسعة اطّلاعه، فيصبح الواقع بالنسبة إليه أشبه «بالليل الذي تبدو فيه كل الأبقار سوداء»، على حدّ تعبير الفيلسوف الألماني هيغل.
بحلول أوائل العام 2011، كان حافظ وبشار الأسد قد أمضيا 40 عامًا في البرج العاجي. وقد صرّح مستشار سابق لبشار أن الرئيس «يعيش في شرنقة». وواقع الحال أن بشار ربما لم يكن حتى على دراية تامة بالديناميكيات الداخلية لأجهزة الدولة التابعة له، وخصوصًا الأجهزة الأمنية الجامحة. فحين تحوّلت سورية إلى إرث عائلي أصبحت أقرب إلى الدولة الدكتاتورية المجزّأة، حيث تنتشر فيها الإقطاعيات الشخصية، ما جرّد المؤسسات العامة من الفاعلية والأهمية.
لقد أخذت الانتفاضة الدكتاتور السوري على حين غرّة وجرّدته من هالته، وأثبتت أن السياسة لا يمكن إلغاؤها أو دفنها إلى الأبد. وفي حال كرّر النظام أخطاءه هذه بعد انتهاء الانتفاضة، فستعود أحداث العقد الماضي المريرة لتطلّ برأسها مجدّدًا.
- مركز مالكوم كير – كارنيغي للشرق الأوسط 2021