الشاعر الرائي وتمثلات الوجع الإنساني في «صحيفة المتلمس»

عقيل هاشم

صدر للشاعر العراقي عبد الأمير خليل مراد ديوانه (صحيفة المتلمس) بطبعة جديدة عن دار الصواف للطباعة والنشر والتوزيع، حيث تضمنت عددا من القصائد الشعرية المتنوعة شكلا ومضمونا، تعالج هذه القصائد مسألة الذات وإشكالية الوجود الإنساني، انطلاقاً من تصور مفاده: أنّ الذات الشاعرة هي أقرب الذوات إنصاتا لما يجري في هذا العالم المسكون بالصراعات ونبذ الآخر و من خلال هذا المنطلق، تكونت مضامين تلك النصوص كتجربة للوعي – الذات/ الجماعة، وهو تكثيف لمعاني متحولة من سردية الذات كتبها شاعرها بمدخل تمهيدي (الإهداء)، ومفاتيح هي خطاطة من وصايا مستله من الموروث. فقد تبدو حياة الشاعر داخل إطارها المأسوي انعكاسا لما يعتري الحياة من صخب الفوضى كتبها الشاعر بصور موحية ودلالات خصبة تمتد لتمارس فاعلية إنسانية تمنح الحياة معناه الحقيقي، إذ يرسم الشاعر رؤيته الحياتية بنعوته الخاصة التي تتصل بالماضي المثقل بالحكمة والتجربة وتؤسس لواقع إنساني تنتصر فيه لغة المقاومة.
أما على مستوى الرؤية والاهتمام بعالم الشاعر وانفعالاته وهواجسه جاءت النصوص الشعرية تناصات من صور شعرية لشعراء قدماء ومعاصرين بالإضافة الى إشارات من قصص وشخوص الكتب المقدسة والأساطير، باعتبارها تكثيفا واختزالا لأحوال الذات/ العالم كما يعيشها ويراها ويخبر كثافتها الحسية والروحية، ما جعل الذات الشعرية في وعيها الوجودي وقلقها وأسئلتها واندفاعاتها تشكل بؤرة تتداخل فيها الأصوات والحالات والصور والوقائع، وقد أعاد الشاعر في هذا التكثيف الرمزي والدلالي والاستعاري بناء عالمه الشعري من شظايا الحواس على نحو أكثر دلالة وتعبيرا عن وعي الذات الشاعرة. وهنا حين يتحول الشاعر الناطق عن مأساة شعبه من ظلم وتشرد، وعن تمسك هذا الشعب بحقه في الحياة. ولذا جاءت العنوانات للقصائد معبرة دلاليا.
ومن العنوانات :
احتمالات وألفة الحقل وإيماءات بعيدة وشوكة المواريث وأرشية الطائر المبهوت وألفة قديمة والشاعر والقصيدة وغيرها. وهنا الشاعر لم يستطيع التحرر من سلطة الأيديولوجيا واستعادة علاقته الحية مع الذات المسكونة بقلقها وأسئلتها الوجودية والإنسانية، ما جعل صوت الذات يعبر عن هزيمة مرحلة وسقوط أوهام كبيرة. من هنا فإن قراءة تجربة الشاعر يمكن أن تدلل على طبيعة التحولات التي طرأت على الوعي الشعري والجمالي، فقد استلهم الشاعر عنوان مجموعته من شخصية (المتلمس) الذي قذف بصحيفته في البحر بعد أن عرف ما خبِّئ له من مصير حيث أمر ملك الحيرة عامله على البحرين بقتله بينما واجه ابن خاله الشاعر طرفة بن العبد مصيره بالقتل.
يقول في قصيدة: (احتمالات)
حين لا املك إلا أن أقذفك
بهذا القلب
الذي تدوسه حوافر العنقاء من كل جانب
حين يقفز من صدري
كالقطط المسعورة
دعني …اصرخ
اصرخ باسمك
من أعماقي المسكونة بالضجر …ص11

إنّ الشاعر يتعامل مع النص الشعري بوصفه نشاطا لغويا يسعى إلى خلق إبداع جديد معبّر عن الذات والحياة الإنسانية، فقد كانت موهبة الشاعر وقدرته على التطور والتجدد السمة الأبرز في هذه التجربة، ولذلك لم يكن غريبا أن تعرض له هذه التحولات وهنا تناول الشاعر في المجموعة الشعرية جملة من الموضوعات التي تستغرق هموم الإنسان العراقي وإحباطاته الإنسانية والوجدانية ،صاغها بحس عال، ولغة شائقة، وأسلوب سلس، يعكس مدى شاعريته وإحساسها المرهف بالتعامل مع الجملة الشعرية، والتحليق في المعاني بشكل مدهش، فإن كانت ذات الشاعر قد تمخضت عن هذه المعاناة والألم الإنساني، فقد شكلت هذه النصوص مجرى الإبداع الشعري لديه، بل امتد إلى أفق إنساني رحب. بالاستفادة من التناص من شخصيات تاريخية مهمة وتركت أثرا في مسيرة الحياة البشرية (ذو النون والنفري والحجاج و الحسين وسقراط والمعري والسياب والحلاج ودعبل ,..الخ)، يقول الشاعر في إحدى القصائد:
خذني, هذه المرة لأضرم النار في جسدي الناحل
ولا أهمّ بشيء لم ينله أبو الطيب المتنبي
فليس عندي إلا بقايا جمجمة سوداء
وعظام لا يكسوها اللحم
ولكنني رغم أفولي
أحلمُ بالقمر الذي لن يضيء شرفتنا الليلة

الشاعر لم يتمكن من التجرد من شاعريته التي مكنته استبطان عوالم التوتر والاغتراب الذي يعشش في دواخله، ولعل ما يمتص درجة الألم عنده هي المعاناة عند الشاعر (المثقف) في عالم يضج بالفوضى جسدها شعرا بالاتكاء على المخبوء الشخصي.متفرقاتٍ لصورٍ من الحياةِ الإنسانيةِ، بدأً بوصفِ أصغرِ الأشياءِ إلى أكبرها، عن اقتراب الذات إلى الإنصاتِ العميقِ لوقائعَ حية، بل هي رصدٌ لأحداث تاريخية، ولصور إنسانية، لا تنعدمُ مشاهدها في الزمانِ والمكانِ.
يقول في قصيدة: (تقاسيم الناي الأولى)
مشينا مواجعنا خطوة …خطوة
ورحنا نذري الضلوع على الشوك
يا صاحبي
لنبدأ حلم التمني بأوهامنا
العابرة…ص41
إنّ البحث عن الرؤيا الأساسية لشعريّة النص من بنياته الأساسية المشكّلة له أمر مهم للتعرف إلى طبيعته الفكرية، ودلالاته العميقة، وهكذا تظهر قيمة الشعر باعتباره نصوصاً تضيء ما غادر داخل التجربة، واكتنه فيها، وتظهر قدرته في اختزان دلالات عديدة ترمز إلى هذا المنحى أو ذاك من مناحي الحياة، بمعنى أن الشعر يقوم على اختزال التجربة الشعريّة في كلمات مصوغة بدقة وتركيز في الوقت الذي يقوم فيه على تحقيق رغبة الشاعر في التعبير عن هذه التجربة.
لقد أبدع الشاعر شعريّة واضحة في نصوصه من خلال البنية اللغوية والدلالية والصوتية والتركيبية التي تعكس تجربة ذات بنية عميقة تمتلك سمات الحكائية السردية بوصفها تقنيات جديدة تساعد في تكوين بؤرة نصيّة ذات فاعلية شعريّة منتجة للمعنى،تجسدُت من مركزية الذات في صياغة نفسها، وتفاعلها مع الأحداث، بصيغة ثنائية الحياة/ الموت. وهي تفسر أيضا مدى حضور هذه الثنائية في معظم القصائد لذا لا مناص من معاودة التفكير والتأمل في طبيعة التعامل مع الشعر، والنقر في موضوعاتهِ ومن أهمها سؤال الذات، بمعنى إشكالية وجودية الأسئلة.
يقول في قصيدة: (أرشية الطائر المبهوت)
ليس بمنقاري بقايا قوت
أيامي تأكل أيامي
وحجولي كهدير المنفى
تتكسر في آخر شاو
وأنا ما بينهما كالطائر المبهوت….63

إن الشاعر – بوساطة الصور البلاغية– يستطيع أن يحفز صور القصيدة، ويوحّد دلالاتها، ويستجمعها في صور دالة فاعلة، تنم على تناسق وانسجام، وتخصيب إيحائي فاعل،وقد أدركنا أن هذه الصور اللغوية والتي لها أبلغ الأثر في الكشف عن مضمرات الشاعر النفسية وأحاسيسه الشعورية التي تضج بالتوق والحنين والاستغراق الروحي في الحالة الوجدانية التي تملكته، لدرجة التمثل التام معها. ولقد ساعده في ذلك عدد من اللوحات الفنية التي تنهض بالرؤيا للمتلقي وهو يتلمس المعنى أثناء قراءة النص الشعري، حتى صرنا نشعر بوجود نغم موسيقي فاعل ومؤثر، يعتبر أحد أهم مفاتيح النص الشعري.
يقول في قصيدة: (صحيفة المتلمس)
من يملأ كوزي بعناقيد اللذة
وتلك دفوفي الأزلية تتقافز
كقط يهتف
يهتف في دهشة وقداسة
ولا أحد في مقاهي الحكمة
آه الحكمة يا ابن أبي …ص82
وختاما نقول إنّ ممارسة فعل التلقي لنصوص الشاعر تكشف عن رؤى معرفية منبعثة تقود إليها صور الشاعر ولغته الممعنة في بلاغة التصور، وان المضامين الفكرية جاءت بها القصائد ضاجة بالحسي من المخزون الأدبي؛ وقد أحدثت تناغماً فكريّاً يمنح قصائده كثافة تعبيريّة تبعث على الدهشة وتُضاعف من فاعليتها الجمالية وذلك بانزياحات لغوية تحمل المعنى من دلالة إلى أخرى وتسمح بتعددية دلالية تنسجم مع رؤى الشاعر النازفة، والبنى التركيبية المشكّلة لها باذخة بشمولية بلاغة الصورة، في مرموزاتها لتأخذك إلى مكامن الدهشة في توصيل الرؤيا والتي تعبر عن مدى ارتقاء الشاعر الى لغة شعرية خاصة به، فيطرح عبرها هموم الحياة بصخب آلامها وإرهاصاتها أمام القارئ دون زيف، مهما اشتد وطيس هذه المعاناة .

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة