في غضون اسبوع واحد فقط تغير وجه السياسة العالمية تجاه احداث الشرق الاوسط. العواصم الكبرى والصغرى لم تعد غير مبالية او مهتمة، بل ان الدبلوماسيات انشغلت في عملية بلورة تحالفات مستجدة وتشكيل استراتيجيات وتكتيكات لمواجهة الخطر المقبل: الدولة الإسلامية او “الدولة” او “داعش”. دولة ابي بكر البغدادي هذه صارت بعد اشهر من الجرائم المرعبة وتدمير الكائنات والمؤسسات، كمثل الافعى السامة التي ولجت بيت العائلة ومهجع الاطفال وصار عليها ان تختبئ من عشرات المهاجمين الصاخبين.
عواصم العالم لم تعد قادرة على انتظار نهاية داعش او الدولة او دولة داعش، بل عبرت عن عزمها المكين على انهاء حياة هذا الوحش الكاسر الذي بدا لأسابيع انه منطلق نحو احتلال المزيد والمزيد من اراضي الدول والتمركز في حواضر تأريخية ما كان احد يحلم بنهايتها هذه.
سبعة ايام فقط نقلت داعش او الدولة الى عالم جديد من الاختباء والانحسار والتستر بعد ان كانت تحت سيطرة وغواية الاضواء والاستعراض الهادف الى ترهيب الناس وسلبهم ارادتهم. التقارير التي اعقبت ذلك الاسبوع التأريخي اشارت الى ان الإجراءات التي اتخذها التحالف الدولي ستتعقب “الدولة” وستحصي عليها انفاسها. واخيراً ادركت داعش ان عصر الاستعراض الدموي في العراق قد انتهى. فعادت الى التخفي والتستر والعمل تحت مخاطر الطيران المحلق واجهزة الرصد والتحليل المتطورة لدى التحالف الغربي.
الولايات المتحدة بإدارتها الديمقراطية ورئيسها باراك اوباما تذرعت بنحوٍ غير مقنع بالكثير من الذرائع وربطت اسنادها للعراق بتغيير حكومة المالكي وتشكيل ما وصفه بـ”حكومة شراكة واسعة” بديلاً عن حكومة المالكي التي اغلق حسابها السياسي لدى واشنطن. في العراق بدا ان هذا الشرط اكثر من صعب على الساسة العراقيين الذي اعتادوا ان يكونوا متأخرين عن كل المواعيد والاستحقاقات. فكيف بحكومة شراكة واسعة؟ ومن بغداد بدا الشرط الاميركي تعجيزياً اكثر منه واقعياً وممكن التحقق.
رئيس الوزراء الجديد الدكتور حيدر العبادي جرت تسميته في عملية قيصرية انفرد فيها رئيس الجمهورية فؤاد معصوم بدور البطولة وسط دهشة العراقيين. فهذا الأكاديمي المتزن والسياسي الليبرالي طوال حياته، وابرز حمائم حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، لم يعرف عنه مثل هذا الإقدام الذي يتطلب قسطاً من المغامرة وجرعة من الشجاعة الحاسمة.
ولم يكن تشكيل حكومته اقل تطلباً من عملية انتخابه لرئاسة مجلس النواب. فالمجموعة المنتقاة ارضت الراغبين بالتوازن الكمي اكثر منه تطلعاتها الى حكومة نوعية. فالوزارة الحيدرية الاولى لا ملامح تجمعها سوى البيان المقتضب الذي اعلنه العبادي الذي هو بمنزلة عناوين عريضة منطقية، ولكنها ليست بالضرورة واقعية او قابلة للتطبيق. ومع هذين الامرين يظهر ان الوزارة لبت متطلبات وملامح حكومة الشراكة الواسعة.
الحقيقة العراقية اعمق من ظاهر الحركة السياسية والدبلوماسية، فهجوم داعش في العراق حصل كضربة صاعقة بدا ان جسد الجيش العراقي بدأ يترنح بعدها. السقوط المريع للموصل الذي حصل في معركة منفردة انهت وجود الدولة العراقية في ثاني اكبر محافظة في العراق واول محافظة “سنية” في الحجم السكاني؛ خلق صدمة في الجسد العراقي لم يتعافَ منها الا بعد فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي الذي جاء كما يظهر بعد ادراك المرجعية العراقية ان الدولة ومؤسساتها لم تعد قادرة وحدها على حشد القوة المطلوبة للتصدى لموجة داعش الزاحفة نحو الوسط العراقي.
هذا كله حصل وسط اكثر الازمات الاجتماعية في العراق، إذ بدا انفصام اهل السنة في اكثر من محافظة عن الحراك العراقي العام واضحاً ولم تشفع الانتخابات التي جرت في ظروف معقدة جداً في ان توازن الوجود المتفاوت للطوائف بما يسمح بالتقارب. ولهذا فإن احتلال الموصل لم يكن حدثاً يجمع عليه العراقيون، لا بل بالأحرى، بدا ان سكان المناطق الغربية ينظرون الى ما حصل كعقاب لبغداد ونظر اليها بعضهم بعين الشماتة.
اما الحقيقة السياسية الدولية، فالواقع اشار الى ان تمدد داعش والدولة انتهى بتأسيس جدار الصد العراقي الذي تشكل من سامراء وتكريت في الجنوب ونهضة قوات البيشمركة في الشمال. في حين لم تتشكل على مستوى الإقليم او المستوى الدولي اي جبهات او تحالفات يمكنها ان تسهم في الإحاطة بسيل داعش ومنعه من التحول الى فيضان غامر وجامح. لهذا فإن تشكل الحكومة العراقية الجديدة ازاح اكبر الذرائع التي احتاط بها اوباما المتردد والحائر والمرتبك. ولم يكن من السهل عليه الانتقال في التعامل مع داعش الى حيث يمكن لجمها حقاً. كما ان بيئة الادارة الاميركية مستندة الى فكرة رفض المعالجات العسكرية للأزمات الخارجية بخلاف الجمهوريين لم تساعد على التصدي للخطر المتزايد.
واخيراً بدا ان الإدارة الديمقراطية لم تعد مقنعة لا لجمهورها الاميركي ولا لحلفائها شرق الاوسطيين الذين بدأت سخونة رياح الدولة الإسلامية تلسعها.
في الحقيقة الدولية برز عامل تجنيد المقاتلين الغربيين وادارتهم لنشاطات داعش والدولة الالكترونية وعبر شبكات التواصل كعامل خطير للغاية تنبهت اليه اوروبا قبل اميركا، ورسمت بتفصيل كبير حجمه وامتداداته الواسعة عبر القارة الاوروبية واميركا. واوضحت التقارير ان امكانية انتقال المقاتلين المتطرفين في التنظيم الارهابي اكثر مما تخيلت واشنطن. بل ان اكثر عمليات القتل بشاعة حصلت على يد مقاتلين غربيين من اصول مختلفة ليست بالضرورة عربية او اسلامية. بعض القتلة والمعذبين من داعش ظهروا وهم يتناوبون على اقتراف جرائم في الغرب وفي الشرق وكأنهم في نزهة.
وبالاتجاه نفسه برزت حقائق سياسية غريبة كشفت عن ان ممارسات دول حليفة للغرب والتحالف الاطلسي لم تعد كما كانت. وبالاخص تركيا التي يظهر انها تنزلق تدريجاً نحو ضفة مناهضة تماماً للوجهة الاوروبية والغربية. فحكومة اردوغان تبنت اسساً لها قاعدة الفكر الإخواني بقوة واندفاع. في غضون الايام القليلة الماضية عمقت تركيا اردوغان الانطباع بأنها تكاد تكون دولة مارقة على الإسلاميين. ففي حين ان الحلفاء التأريخيين للإخوان المسلمين تخلوا عن دعمهم في مصر اولاً وفي بقية الساحات ثانياً. هذا ما تسبب بالأزمة السياسية بين دول مجلس التعاون الخليجي الذين سحبوا سفراءهم من الدوحة بسبب سياسة قطر المؤيدة والممولة للإخوان وتضييفها القيادات المطلوبة للقضاء المصري لارتباطهم بنشاطات مماثلة لنشاطات داعش في مصر.
هذا الأمر وتفصيلاته افضوا إلى التضحية بعلاقات تركيا الجيدة مع مصر ودول الخليج، وإذ ان الدوحة اضطرت الى اخراج اعداد من قيادات الاخوان برز اردوغان ليدعوهم للمثول الى تركيا والاقامة فيها بعثا دهشة كبيرة في جميع الاوساط السياسية التي لا ترى اي فائدة او معنى من تشجيع الاخوان.
في تركيا وغيرها يعتقد أنصار النظام التركي أن أردوغان صار ايضاً أسير اندفاعه في دعم المنظمات الإرهابية في مواجهة النظام السوري، وإنه ما عاد قادراً على مكافحتها خوفاً من ردود أفعالها داخل الأراضي التركية، فضلاً عن الخوف من عودة المقاتلين الأتراك لتجريب ما اكتسبوه من خبرات قتالية ضد نظام بلادهم.
لهذا كله ترفض انقرة الإندماج في الكتلة الدولية الكبيرة التي تواجه داعش ويسود الاعتقاد ان تركيا ربما تكون الطرف الأكثر تضرراً من الحملة الدولية على “داعش”؛ لأنها ببساطة تتعارض مع رهانها الاستراتيجي على الحرب في سوريا.
الحرب الدائرة لن تكون استثناءً من غيرها بأن هنالك دائماً خاسراً في الحرب، وتشير احداث اليوم في العراق وسوريا الى ان داعش وحلفاءها والمتساهلين معها لن يكونوا رابحين في كل سيناريوهات القتال والمجابهة المحتملة. والحقائق السياسية الجديدة لن تكون لمصلحة من يتستر او يتغاضى عن خطر التطرف الداعشي. والتغييرات اللافتة على السياسات السعودية ودول الخليج تجعلها في صف المواجهين للإرهاب في حين يظهر ان تركيا ستكون خاسرة حتماً. وبالمقارنة مع سياسات تركيا في السنوات العشر الماضية يظهر ان اردوغان يخسر كل ما كسبه بداية مشواره الناجح في الشرق الاوسط.