مفتي من هذا الزمان

زمان تسترد به أتعس بضائع القرن السابع الهجري فتنتها وسطوتها، وتصل ذروتها في استيلاء عصابات ما عرف بالدولة الاسلامية في العراق والشام (داعش) على ثاني المدن العراقية (الموصل) وأكثر من ثلث الاراضي العراقية وغير ذلك من تجليات التشرذم والانحطاط؛ لا نستغرب فيه وصول شخصية مثل الشيخ الصميدعي الى موقع مفتي الجمهورية، ليبث الروح في مؤمياءات فتاوى ذلك العصر الذي شهد أقبح ما لدى سلالات بني آدم من قيم وخطابات الكراهة والعدوانية وشيطنة الآخر المختلف. أن تصدر مثل تلك الفتاوى من شيخ الاسلام ابن تيمية أو من تلميذه ابن القيم الجوزية وغيرهم من شخصيات القرن (السابع والثامن الهجري) يمكن فهمها على ضوء هموم وتحديات ذلك العصر، والتي تختلف جذرياً عن هموم وتحديات عصر أصبح فيه عمر المعلومة أقصر من عمر الفراشة، لكن أن تصدر من مفتي جمهورية العراق ونحن على أبواب العام 2019 اعادة تدوير لتلك الفتاوى التي تحرم تقديم التهنئة للمسيحيين بهذه المناسبات ذات الطابع الاممي (الميلاد ورأس السنة) أو المشاركة في احتفالاتها، فان ذلك يشير الى حجم المتاهة والمهزلة التي نعيشها كعراقيين برفقة هذه الطبقة السياسية وخياراتها لسنام المواقع والمسؤوليات السياسية والدينية والادارية.
الشيخ الصميدعي لا يخفي مذهبه وسبيله السلفي وتابعيته لمذهب ابن حنبل وابن تيمية وابن القيم وباقي القافلة من شيوخ السلفية، ولذلك فهو محكوم بالمعايير التي تعد الرجوع الى الماضي هو عين الصواب والالتزام والايمان الحق، ولهذا فلا يجوز لنا الاستغراب عندما يعدون عصر ابن تيمية مثلاً أفضل وارقى من عصرنا هذا وغير ذلك من الاعتقادات.. العتب الحقيقي لا يقع على ذلك المفتي المحكوم بسرديات ومدونات القرن السابع الهجري وأئمته ومدارسه وشيوخه؛ بل على حكومات هذا العصر والتي تورط مجتمعاتها وبشكل ممنهج بمثل هذه الشخصيات المسكونة بالعصور الغابرة. بالرغم من مرور أكثر من خمسة عشر عاماً على ما يفترض انها مرحلة للعدالة الانتقالية التي تغربل لنا ذلك الركام الهائل من أنقاض مرحلة ختمت عمرها بالحملة الايمانية، الا ان ما حصل على أرض الواقع كان بعيداً عن ذلك تماماً، حيث استثمرت الجماعات التي تلقفت مقاليد الامور، ما خلفته تلك الحقبة الغاشمة من حطام البشر والحجر والقيم، لنصل لمثل هذه المحطات التي يستلقي فيها الشيخ مهدي الصميدعي على منصة الافتاء في العراق الاتحادي الديمقراطي…؟!
مثل هذه الفتاوى وغيرها الكثير على صعيد الممارسة والفكر، تؤشر على حجم التباين والتنافر بين ما تدعيه هذه الطبقة السياسية بمختلف تسمياتها (التقليدية منها والحداثوية) وما تدفع به وتحميه على صعيد الواقع. ومن مثل هذه الاحداث يمكن فك طلاسم كل هذا الفشل والعجز عن انجاز مستلزمات هذه المرحلة، وهي على الرغم مما تبدو عليه من احداث ومواقف عابرة أو جزئية، الا انها تختزن الكثير من الاشارات عن القوى المهينة والبنى التحتية والمؤسسات التي تقف بالمرصاد لمشروع العراق الجديد والمتخفف من اوزار وثارات القرن السابع الهجري. كما انها تكشف عن هشاشة وتواطؤ ما يفترض انها مؤسسات للقضاء المستقل وهيئات لتحقيق العدالة الانتقالية وتطلعات العراقيين المشروعة من دون تمييز على اساس الدين او اللون أو الجنس وغير ذلك من سكراب عصور العبودية واذلال عيال الله وبعيدا عن هلوسات الفرقة الناجية..
جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة