لا أحد يتجرأ على منافسة البرلمان العراقي في مرحلة ما بعد زوال النظام المباد، من ناحية تشريع القوانين الفنطازية كمجالس المحافظات والتي حققت فتوحات لا مثيل لها في مجال وظيفتها الاساس (الخدمات) لتجد لديها فائض من الوقت كي تنتقل الى اهتمامات المغفور له مونتسكيو في مجال فقه القوانين، ذلك الميل الذي دفع بأعضاء مجلس محافظة كربلاء لتشريع قانون قدسية مدينة كربلاء. لا يتناطح كبشان حول الواقع المزري لهذه المجالس ودورها في إجهاض التطلعات المشروعة لسكان تلك المدن والمحافظات، في العيش بكرامة وأمن واستقرار. ولن نجافي الموضوعية والإنصاف عندما نعدها أحد أعمدة الفشل والفساد الذي يعيشه البلد على شتى الأصعدة المادية والقيمية.
مثل هذه الهوايات والاهتمامات (الحرص الشديد على قدسية الأماكن والأشياء ومملكة الفضيلة والآداب العامة وغير ذلك من استعراضات التقوى..) تذكرنا بقافلة الآباء المؤسسون والمولعون بها من مفارز وعسس الحنابلة قديماً، وحرامي بغداد خير الله طلفاح الذي اسس شرطة الآداب ومهد الطريق لابن اخته لقيادة ما عرف بـ “الحملة الإيمانية” حديثاً، والتي وصلت بها عصابات داعش الى سنامها الأعلى في الولايات التي استباحتها.
مثل هذه الاهتمامات تليق بمثل هذه المجالس التي قذفتها الصدفة التاريخية والهزائم الحضارية الى مواقع القرار في المدن والمحافظات العراقية المنكوبة، فما الذي يمكن لهكذا مجالس من الاهتمام به، كي تغطي على ما طفح من فضائحهم على شتى الأصعدة، غير اقتفاء أثر سلالات اللصوص ووسائلهم الديماغوجية في تضليل وخداع ودغدغدة الغرائز المتدنية للجموع، وعلى رأس ذلك الاستثمار في بورصة “القدسية” والتي وصلت في بعض الأماكن الى عمود الكهرباء.
يدعي فرسان التقوى والفضيلة في مدينة كربلاء؛ ان تفعيلهم لمثل هذه القوانين الفنطازية يأتي من حرصهم الشديد على قدسية مدينتهم التي انتهكتها الملابس النسائية المعروضة بالأسواق، كما ان موقفهم هذا يأتي ذوداً عن “الأخلاق والآداب العامة” والتي لا تعكر صفوها إلا أصوات الموسيقى والغناء واحتفالات الناس بمناسباتهم السعيدة، “آداب عامة” لا يضيرها كل موبقات هذه الطبقة السياسية التي تستنكف حتى مفردة الفساد من الانتساب لها، وتحصر اهتماماتها بما شغل عقل وذائقة وهراوة ذلك المخلوق النافق والذي لم يكف عن احتضان الكتاب المقدس الى يومه الأخير. هكذا يفهم القوم القدسية، وهكذا يتم الاستثمار في حوانيتها البائسة في مضاربنا المنكوبة باللصوص والمشعوذين والقتلة من شتى الرطانات والهلوسات والازياء.
المشكلة ان هؤلاء القوم عاجزون أو لا يريدون ان يفهموا حقيقة ان قيادة وإدارة الدول والمؤسسات والمدن لم تعد تغرف من جرف العقائد والآديولوجيات المثقلة بوباء الوصاية على عيال الله، بل هي الخدمات ولا شيء غير الخدمات، وهذا ما تعد به الأحزاب الحديثة الجماهير والطبقات الاجتماعية التي تصوت لها، هذا هو المعيار الذي يفرز بين الغث والسمين في عالم اليوم الذي تحرر في غالبية بقاعه من سطوة اللصوص والمشعوذين، وهذا ما لم ولن تقترب منه مجالسنا المحلية وقوافل مشرعينا الجدد المسكونون بهموم الرسائل الخالدة والامة الواحدة. فما قيمة وجود مدرسة نموذجية أو مستشفى يليق بمن حاولت شرائع السماء تكريمه ذات عصر او مركز شرطة لا تسحق فيه حقوق الإنسان كل لحظة وغير ذلك من خدمات حطام الدنيا، أمام ما يشغل القوم من مسؤوليات تجاه العالم الآخر…!
جمال جصاني