لا عدالة ولا انتقال

بعد مرور أكثر من خمسة عشر عاماً على استئصال المشرط الخارجي لـ “جمهورية الخوف”، نجد أنفسنا كعراقيين أبعد ما نكون عما يفترض اننا نمر به، أي مرحلة العدالة الانتقالية التي تمهد الطريق لنهوض مؤسسات الدولة الديمقراطية الحديثة من وسط أنقاض الحقبة التوليتارية. طبعاً لا يمكن نكران حقيقة صدور العديد من القرارات والتشريعات ذات الطابع الحضاري والحداثوي، والمستمد من خبرات وتجارب الأمم الاخرى التي مرت بمثل هذه التجارب الانتقالية، كما رافق ذلك تأسيس عدد غير قليل من المؤسسات والهيئات والتي من المفترض بها تعزيز التوجهات الديمقراطية والدفاع عن منظومة الحقوق والحريات الجديدة؛ إلا أن كل ذلك ما لبث أن تحول وانعطف الى غير ذلك تماماً.
ليس هذا وحسب بل وصل الأمر الى الرافعة الأساس في مثل هذه التحولات الجذرية في حياة المجتمعات والدول الحديثة، والتقنية المجربة في فك الاشتباكات الاجتماعية والسياسية والعقائدية؛ أي الانتخابات بشتى عناوينها وأشكالها (الاتحادية والمحلية والنقابية والمهنية..)، حيث تم تطويبها لصالح قوى وجماعات وكتل تتحسس أجنحتها وفصائلها المسلحة عند سماعها لمفردتي “العدالة” أو “الانتقال” وكل ما يمكن ان يتطفل على ركود مستنقعاتها ومستوطناتها الآسنة.
نشاهد جميعاً ما تمخضت عنه آخر انتخابات برلمانية، لا سيما وقد شهدت عزوفاً لا مثيل له في المشاركة بها من قبل قطاعات واسعة، مما ساعد على صعود أكثر القوى بعداً عن متطلبات “العدالة الانتقالية” الى سنام السلطات متمثلة بالبرلمان، وما مناورة رمي مسؤولية تشكيل الحكومة لشخصية من خارج ماراثون الانتخابات ومجلس النواب، والسياقات المعروفة في النظام الديمقراطي البرلماني؛ إلا دليل واضح على المأزق الذي انحدرت اليه هذه الطبقة السياسية بكل تلاوينها وادعاءاتها. لقد حسمت هذه الطبقة السياسية خياراتها البعيدة كل البعد عن كل ما له صلة بمفهوم (العدالة) مبكراً؛ عندما حثت الخطى صوب (المنطقة الخضراء) وعندما شرعت القوانين وفقاً لقياسات “أحزابها” وتضاريسها الفئوية الضيقة، وعندما وضعت أعلى المخصصات والاجور لعناصرها وملاكاتها الذين ترجموا مفهوم (الانتقال) الى حوسمة شاملة ونقل سريع لأسلاب النظام المباد الى إقطاعاتهم السياسية ومكاتبهم الاقتصادية.
وهذا المنحى البعيد عن المسؤولية والمصالح العليا للوطن والناس، تحول بفعل خلو الساحة من أي معارضة جدية؛ الى تقاليد راسخة وثوابت لمرحلة لا عدالة فيها ولا أدنى همة للانتقال صوب الديمقراطية والتعددية وبناء مؤسسات الدولة الحديثة.
لن نجافي الحقيقة والإنصاف أبداً، عندما نقول إن لا ناصر للعدالة الانتقالية في هذا الوطن المنكوب والمستباح، لا سيما من قبل طبقة سياسية تعرفنا على نوع مواهبها وهمومها واهتماماتها جيداً. طبقة بسلوكها وخطاباتها ومقاصدها النهائية، لم تسحق أحلام وتطلعات العراقيين المشروعة وحسب، بل أعادت الروح لفلول النظام المباد وواجهاته، وهذه نتائج مغايرة تماماً لما يفترض بمرحلة العدالة الانتقالية إنجازه في أقل من هذه الأعوام، كما جرى الحال مع الأمم والشعوب التي وصلت لسن التكليف الحضاري. ما يجري معنا وبعد مرور عام على إعلان النصر على عصابات داعش، وأكثر من ستة أشهر على إجراء الانتخابات البرلمانية، يؤكد على أننا اليوم (شعبياً ورسمياً) أبعد ما نكون عن مرحلة شروطها الوعي والحداثة وروح الإيثار..!
جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة