آخر ما نحتاجه.. المعلومة

في كتابه (ما وراء الاوهام) يقول ايريش فروم: (ان مجتمعات وطبقات آيلة الى الانهيار، لهي أشد تشبثاً بتخيلاتها واوهامها، لأنها لن تجني شيئأ من وراء الحقيقة). عبارة وكأنها كتبت لوصف حال العراق وسكانه من شتى الرطانات والهلوسات والأزياء، وكيف تتداول اموره بين قوافل وعصابات وجماعات، لا تتميز عن بعضها البعض الآخر الا بمنسوب البطش والشراهة وكراهة كل ما له صلة بالوعي والحقيقة والعدل والجمال.
بالرغم من مرور عقد ونصف على زوال النظام التوليتاري، والذي اجهز على القسم الاعظم من قدرات العراقيين العقلية والوجدانية؛ الا انهم ما زالوا يهيمون في دروب الغيبوبة والتشرذم والضياع، بفضل القوافل (الجديدة-القديمة) من قراصنة المنعطفات التاريخية، والذين تلقفوا مقاليد امور البلد، حيث لم يشذوا عن اسلافهم في التمسك بثوابت الرسائل الخالدة والمتمحورة في ضخ المزيد من الاوهام والاكاذيب الى ترسانتها المترهلة اصلاً.
لست بصدد رفد العتمة في المشهد العراقي الراهن، بالمزيد من السوداوية والتشاؤم والاحباط، لكنها الوقائع والمعطيات تتحدث عن مستويات وحجم التشبث بـ “تخيلاتها وأوهامها” واصرارها على المضي قدماً صوب الهاوية.
الوقائع والنتائج الفعلية هي من تؤكد ان آخر ما نحتاجه حالياً؛ هو المعلومة والحقيقة، وما المصائر التراجيدية التي عصفت وما زالت تتربص بكل حماس، بمن رمتهم الاقدار في دروب التقصي عن مثل تلك المحظورات التي تستفز امن واستقرار مستنقعاتنا الراكدة والمسورة بالغيبوبة المزمنة والهلوسات؛ الا دليل واضح على ذلك النحس العضال الذي ما زال يرافقنا منذ أكثر من الف عام وعام.
يمكننا التعرف على ما تعيشه المعلومة والمعرفة من اغتراب في مضاربنا؛ من الاتفاق الرسمي والشعبي من كل ما يمت بصله لهما، وحيث الهيمنة الواسعة لضدهما النوعي (الهلوسات والاوهام) والتي نشاهدها تحيط بنا وتطبع تفصيلات الحياة اليومية للغالبية المطلقة من سكان هذا الوطن بميسمها ومتطلباتها.
لذلك لم تعد المعلومة غير مجدية وحسب، بل صارت مؤلمة لمجتمعات انحدرت الى قاع الهاوية.
هذا الواقع البائس يفسر لنا سر جزء كبير من العجز والفشل والهزائم المتكررة، وسر ارتماء قطاعات وشرائح واسعة منا في أحضان أكثر المنظومات العقائدية والفكرية انحطاطاً وتخلفاً وهمجية، وعلل كل هذا الانحسار والجفاف لقوافل العقل والفكر والنقد والخلق والابتكار. ومن هنا يمكننا ايضاً التعرف على العلل التي تقف خلف كل هذه الاخفاقات التي عشناها برفقة ارقى منظومة سياسية عرفتها الامم الحرة، اي النظام الديمقراطي ومدوناته المجربة وصناديقه ومفوضيته، والتي تحولت لدينا الى وسيلة لاعادة تدوير الشرعية لممثلي خيباتنا، وبما يتفق وثوابت الركود الممتد من الفاو لزاخو.
ان الموقف من “المعلومة” والتي تشكل الاساس الذي نهض عليه عالم اليوم، يحدد لنا نوع مآلات ومصائر المجتمعات والدول، فمن وضعها حق قدرها ارتفعت به الى ما يستحقه من رقي وازدهار، ومن نبذها واحتقرها، ركلته الى ما يليق به من كهوف التشرذم والانحطاط. ومن الاهمية بمكان الاشارة الى ان الموقف منها لا يتجزأ ولا ينسجم مع الانتقائية والرغبات الفردية والفئوية، فالمعلومة كل واحد من الماضي الى الحاضر تمهيداً للمستقبل.
وهذا ما سطرته المجتمعات والدول التي ارتقت الى السنام الاعلى من التطور والازدهار الاقتصادي والعلمي والقيمي، حيث لا وجود بينها لمن وصل الى ذلك عبر الحنين الى الماضي ورسائله الخالدة…
جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة