هل يدخل أردوغان تركيا الى عهدها الجديد ام ان ثقل تبعاته الإسلامية التقليدية ستغرقه قبل ان يصل بعهده الجديد مع تركيا الجديدة الى بر الأمان ؟ . المعضلة الأساسية التي يراها المراقبون فيه هي انتسابه الى خط الإخوان المسلمين . ومع ان تجربة أردوغان ورفقائه تقترح انهم ربما يكونون الأنموذج الاول او البروتوتايب الإسلامي المبرهن على مقدرة الاخوان على فهم العصر الديمقراطي من دون التخلي عن الإرث الديني الروحي للإسلام على وفق فهم الجماعة الإسلامية الابرز والأكبر .
والمواطن المعاصر ما يزال يتذكر تعثر تجربة مماثلة في الحجم والأهمية لإخوان مصر الذين لم يرتضوا بتسليم الحكم الا بعد انقلاب او ثورة شعبية انهاها الجنرال السيسي الذي اصبح رئيساً لجمهورية مصر .
ولكن أردوغان اخذ من تجربة استاذه نجم الدين أربكان الذي عزل واقيل ومنع من الإستمرار بمشروعه الاول من قبل. ويمكننا القول ان تركيا تمر اليوم بمنعطف مهم قادها اليه أردوغان حاملاً حلمه بتحويل تركيا الى دولة رئاسية كما هي حال فرنسا والولايات المتحدة لتجنيب البلاد مخاطر عودة مؤسسات الدولة التركية الكبيرة ولا سيما الجيش من الإمساك بمصائر البلاد .
والمفارقة الكبيرة بالنسبة للعراق وصلته بمجيء أردوغان هي انه كان قد وضع امام اول قرار حاسم وتأريخي وضعه القدر على طاولة أردوغان بعد تسلمه رئاسة الوزراء في تركيا في آذار 2003 قرار الاسهام في الحرب على العراق ..! كان امتحاناً عسيراً يصعب على رجل ليس بقوة قلب أردوغان ان يتخذه . فتركيا المعتبرة افضل حلفاء الولايات المتحدة هي المعول عليها والرصيد المضمون للبنتاغون حينما يتخذ قرار الغزو التاريخي للعراق . وقتها لم يكن سياسيو واشنطن يشكون لحظة واحدة ان القادم الجديد لرئاسة الوزراء سيتجرأ على رفض السماح للقوات الاميركية من استعمال قواعدها وأراضيها للوثوب الى العراق . وهو رفض في النهاية وغامر بعلاقات بلده المصيرية مع واشنطن وربما يمكننا القول انه عبر الإمتحان بعد دفع ثمن غير كبير . ولم تتمكن الولايات المتحدة من اغفال الدور التركي برغم انها كانت غاضبة عليه وعلى سياساته التي بدت وكأنها تنطوي على تناغم مع المحيط العربي القريب لصدام حسين ونظامه .
بدايات مدهشة
تعثر أردوغان بالسياسة في وقت مبكر .. كان يبدو متحمساً للغاية انما حماسته كانت ، كما هي حماسة المبتدئين ، لائذا بالدين اكثر منه بالحياة وحقائقها . وهو انتقل من شوارع الهتاف لكرة القدم ونواديها التي هي اشبه بالأحزاب في تركيا الى سياسة ينيرها الامل بالرب والإسلام .
ولد أردوغان في 26 شباط 1954 في إسطنبول وأمضى طفولته المبكرة في محافظة ريزة على البحر الأسود ثم عاد مرة أخرى إلى إسطنبول وعمرهُ 13 عاماً. نشأ أردوغان في أسرة فقيرة فقد قال في مناظرة تلفزيونية مع دنيز بايكال رئيس الحزب الجمهوري ما نصه: “لم يكن أمامي غير بيع البطيخ والسميط في مرحلتي الابتدائية والإعدادية؛ كي أستطيع معاونة والدي وتوفير قسم من مصروفات تعليمي؛ فقد كان والدي فقيرًا”. ولأنه كذلك فلم يكن امامه الا الدراسة في مدارس “إمام خطيب” الدينية مما مكنه بعد انجازها ان يتأهل للقبول في كلية الاقتصاد والأعمال في جامعة مرمرة ليتخرج منها بدبلوم جامعي سنة 1981.
تعلم من مدارس الدين المقدرة على المجادلة والنقاش المفتوح والمرتجل . حيث يكون هذا الأمر ، على عكس الجدل العلمي والمنصوص قيداً على أي ارتجال وبعيد عن النزعة الشعبية . تملك الخبرة في المحاورة والإقناع والتخاطب مع الجماهير الشعبية حولته الى ما صار عليه من جماهيرية .
قلنا ان حماسته وجدت ما يغذيها في الدافع الديني ولكنها وضعته ايضاً مع أول مواجهة له مع القانون والسلطة من اجل “شواربه” بعيد الانقلاب العسكري في عام 1980 حيث جاء الجنرالات بزعامة كنعان افرين وحطموا بقبضة مدوية هيكل الديمقراطية التركية الهش والمرتهن للجيش وقتها. فقد أبلغه رئيسه في سلطة المواصلات في المدينة التي كان يعمل فيها ، وهو عقيد متقاعد في الجيش، بأن عليه أن يحلق شاربه. ورفض أردوغان وتعين عليه أن يترك عمله.
عام 1998 اتهُم أردوغان بالتحريض ، بسبب اقتباسه أبياتاً من شعر تركي أثناء خطاب جماهيري ، على الكراهية الدينية تسببت في سجنه لمدة عشرة اشهر امضى منها اربعة شهور مع حرمانه من الحقوق المدنية ومنعه من العمل في الوظائف الحكومية ومنها الترشيح للانتخابات العامة .
في عام 1994، عندما أصبح أردوغان عمدة لاسطنبول اجبر كبار منتقديه على الإقرار
بأنه قام بعمل جيد، جاعلا من اسطنبول أنظف وأكثر اخضراراً ، بعد ان كانت مدينة ازبال وبنى متهالكة وخدمات سكانية سيئة للغاية فالمياه ملوثة والبيئة في اتعس حالاتها .
وجعلت خلفيته الدينية والتزامه بالقيم الإسلامية المسلمين الأتراك المتدينين الذين نفّرتهم الدولة ينجذبون اليه .
لم تثنِ قضية اعتقاله ومنعه من الممارسة السياسية عن الاستمرار في شوطه السياسي بل نبهته هذه القضية إلى كون الاستمرار في هذا الأمر قد يعرضه للحرمان للأبد من السير في الطريق السياسي كما حدث لأستاذه نجم الدين أربكان فاغتنم فرصة حظر حزب الفضيلة لينشق مع عدد من الأعضاء منهم عبد الله غول وتأسيس حزب العدالة والتنمية عام 2001. منذ البداية أراد أردوغان أن يدفع عن نفسه أي شبهة باستمرار الصلة الأيديولوجية مع أربكان وتياره الإسلامي الذي أغضب المؤسسات العلمانية مرات عدة، فأعلن أن العدالة والتنمية سيحافظ على أسس النظام الجمهوري ولن يدخل في مماحكات مع القوات المسلحة التركية وقال “سنتبع سياسة واضحة ونشطة من أجل الوصول إلى الهدف الذي رسمه أتاتورك لإقامة المجتمع المتحضر والمعاصر في إطار القيم الإسلامية التي يؤمن بها 99% من مواطني تركيا.
خاض حزب العدالة والتنمية الانتخابات التشريعية عام 2002 وحصل على 363 نائبا مشكلا بذلك أغلبية ساحقة. لم يستطع أردوغان من ترأس حكومته بسبب تبعات سجنه وقام بتلك المهمة عبد الله غول. تمكن في آذار عام 2003 من تولي رئاسة الحكومة بعد إسقاط الحكم عنه.
بعد توليه رئاسة الوزراء، عمل على الاستقرار والأمن السياسي والاقتصادي والاجتماعي في تركيا، وتصالح معالأرمن بعد عداء تاريخي، وكذلك فعل مع اليونان، وفتح جسوراً بينه وبين أذربيجان وبقية الجمهوريات السوفيتية السابقة، وأرسى تعاوناً مع العراق وسوريا وفتح الحدود مع عدد من الدول العربية ورفع تأشيرة الدخول، وفتح الأبواب اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً وثقافياً مع عدد من البلدان العالمية، وأصبحت مدينة إسطنبول العاصمة الثقافية الأوروبية عام 2009، أعاد لمدن وقرى الأكراد أسماءها الكردية بعدما كان ذلك محظوراً، وسمح رسميا بالخطبة باللغة الكردية.
وقد اتسم خطاب العدالة والتنمية بالصدق مع الناس، فهذا زعيمه “أردوغان” يعد الناس أنه من أولويات المرحلة ثلاثة أمور:
* التخلص في أسرع وقت من الأزمة الاقتصادية.
* سيادة العدالة في المجتمع والبدء بتطبيقها على أعضاء الحكومة الذين ثبت تورطهم في ملفات الفساد.
* إنهاء فترة أللااستقرار الناجمة عن الحكومات الائتلافية المشكلة من أكثر من حزب.
ويشبه هذا البرنامج البراغماتي والواقعي ما كان قد قام به التحالف الإيطالي الشهير المعروف بـ ” تحالف الزيتون ” هذا التحالف الذي انقذ ايطاليا من التدهور الإقتصادي عشية اقرار منطقة اليورو الحاسمة والتي تضمنت شروطاً كانت تبدو تعجيزية لإيطاليا لولا المخرج الذي وضعه تحالف الزيتون . الأهداف الثلاثة التي وضعها اردوغان لنفسه ساعدت على اخراج تركيا ، كما ايطاليا وقتها ، من العجز الإقتصادي والفساد والتضخم والمديونية ، ونقلتها الى مستوى قربها من الإنتعاش واعاد ثقة شركائها