لحزمة من الأسباب والعوامل لم يتمكن العراقيون من سبر غور التجارب القاسية والمريرة التي عاشوها جميعاً من دون استئناء على اساس الزي والرطانة والهلوسات، وبنحو خاص ذروة الإذلال والامتهان والرعب الذي تجرعوه مع ما عرف بـ “جمهورية الخوف”. حتى هذه اللحظة لا يمتلك سكان هذا الوطن المنكوب بكل آفات التشرذم والانحطاط؛ موقف موحد من حقبة ألحقت افدح الأضرار ومارست أبشع الانتهاكات ضدهم (افرادا وجماعات) حيث ارجعتهم الى عصور تجاوزتها قبائل كانت لوقت قريب تعيش حياة الغابات والادغال. كما ان فشل وفساد الطبقة السياسية التي تلقفت زمام امور ما بعد زوال النظام المباد، لا يقدم اعذاراً أو مبررات لتلطيف ملامح تلك التجربة التوليتارية التي زرعت الرعب والخنوع بشكل لم يعرفه العراق من قبل، بل العكس هو الصحيح؛ عندما سحقت الدكتاتورية والصنمية كل ما له صلة بالتعددية والتنوع والثراء الثقافي والسياسي لصالح لملوم من حطام العقائد والسرديات البالية، أو ما عرف بـ (الرسالة الخالدة). البعض يردد ومن دون أدنى وجع من عقل أو ضمير، بأن البعث قد ولى هو وكل ما يتعلق به من ملاكات وايقاعات واهازيج وقيم، خطابات وقناعات لا يمكن أن تصمد أمام ما يجري من احداث وممارسات وسلوك (فردي وجمعي) بشكل رسمي أو شعبي، فالجميع (إلا ما رحم ربي) يترنحون على ما ادمنوا عليه من ترانيم وايقاعات طوال أكثر من اربعة عقود من الهيمنة المطلقة لمنظومة الرعب والخنوع والاذلال. هم اليوم بين سلالات جديدة من الجلادين وطوابير اضافية من الضحايا، وطفح من العسكرة والتعبئة والتجييش لا يقل عما احتاجته (القادسيات السابقة). مخلوقات لا شيء في جعبتها سوى؛ ارعاب بعضهم للبعض الآخر، ارضاء لما تصل لمجساتهم العقائدية من (مسجات) سماوية مزعومة.
لاسباب وشروط تطرقنا اليها مرارا لم يحظ العراقيون بفرصة مواجهة منظومة الرعب، والتي تقف خلف القسم الاكبر من إخفاقاتهم وهزائمهم الحضارية والقيمية، لقد تلقف “اولي الامر” الجدد راية الرعب هذه من اسلافهم ليصلوا بها الى محطات اخرى، بدلا من حشد كل الجهود والامكانات لتفكيكها وتصفية آثارها المتسللة الى تفصيلات حياة العراقيين من (الفاو لزاخو). ان نتائج الدورة الرابعة من الانتخابات البرلمانية، أكدت على ذلك النفوذ الكاسح للكتل المدججة بالاجنحة العسكرية وما يرافقها من اجهزة سرية ضاربة، حيث وصل الحال بالبعض للمطالبة بتأسيس جيش شعبي عقائدي لا يقل تعداد منتسبيه عن الثلاثة ملايين عنصر، وهذا يؤكد وبما لا يقبل الشك على ان رهان القوم وبغض النظر عما يتداولونه في بازار الديمقراطية والحقوق والحداثة والحريات، يحتشد في واد آخر؛ انهم في حقيقة الامر لا يعولون في قضاء حوائجهم إلا على منظومة دمارنا الشامل، وهو الرعب والمزيد من الرعب لارهاب الآخر المختلف. ان تكرار واستمرار حوادث القتل والاغتيال وولوجه الى اطوار مبتكرة عند كل مفترق طرق، وبقاء القتلة لا يسرحون ويمرحون فقط ، بل يتم الاحتفاء بهم والارتقاء بهم الى المواقع التي اخلاها قائد الحملات الايمانية واعوانه؛ يعني اننا ما زلنا بعيدين جداً عما يجري تداوله من شعارات ومانشيتات للتغيير والاصلاح. وهذا ما لم يتوقف عنده غالبية المنتسبين القدامى والجدد للكتل المتنفذة، من الذين انخرطوا في النشاطات السياسية، من دون الالتفات الى ان المخلوق المرعوب لا يعول عليه لا في الحرب ولا في السلام…
جمال جصاني
المذعور لا يعول عليه
التعليقات مغلقة