بعد أن أخفقت محاولات آخر رئيس للاتحاد السوفياتي السابق (ميخائيل كورباجوف) في إصلاح حال ذلك النظام السياسي والعقائدي، عبر ما عرف بسياسة (البيروسترويكا والغلاسنوست) مما أدى في نهاية المطاف الى تفتت وزوال قطب الاشتراكية الأول في العالم، استفردت الولايات المتحدة الأميركية بعالمنا ليتحول سريعا الى عالم أحادي القطب. لقد توفرت حينها لأميركا وللأسرة الدولية فرصة لا تقدر بثمن، كي يعاد فيها رسم وصياغة سياسات دولية جديدة، بعيدة عن لعنة الحروب والاصطفافات على أساس المصالح الفئوية الضيقة، سياسات ترفع عن كاهل البشرية كل ذلك الإرث الطويل من الانتهاكات الفظة لحقوق وكرامة بعضنا البعض الآخر. لقد عززت عدد من خطوات وقرارات الأسرة الدولية متمثلة بالجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس أمنها، في حل وإطفاء الحرائق والحروب التي نشبت بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، بداية التسعينيات من القرن المنصرم؛ الآمال بترقب مثل تلك الانعطافة بسلوك الأسرة الدولية، لا سيما وقد ترافق ذلك بتفعيل دور المؤسسات والمحاكم الدولية ومنها محكمة العدل الدولية في لاهاي. لكن هذا الدور سرعان ما تراجع أمام عودة المحاور والتخندقات الدولية الجديدة، والتي نشاهد آثارها المدمرة على الكثير من شعوب وبلدان العالم وبنحو خاص في منطقتنا، وعلى رأسها العراق وسوريا واليمن وغير ذلك من البلدان التي تورطت بهذه الحرائق المستعرة منذ أعوام، من دون أدنى أمل بالغوث الأممي المفقود اصلاً.
من دون أدنى شك يعد استمرار مثل هذه المحارق والحروب، والتي تبدو في تجلياتها ويافطاتها وذرائعها الظاهرية؛ حروبا أهلية تستمد حماستها وديمومتها من علل وأساطير وخرافات وموروثات محلية، إلا أنها في النتيجة النهائية تؤشر على هشاشة ولامسؤولية المجتمع الدولي ومؤسساته وقواه الفاعلة، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية والدول الأوربية وروسيا والصين، وتليها بعد ذلك الدول التي تذكرت شعارات الرسائل العقائدية الخالدة، والتي دفعت المنطقة لجوف هذه الحرائق والحروب الهمجية، والتي تجاوزتها شعوب وقبائل كانت حتى الأمس القريب تعيش حياة الغابات والأدغال. مثل هذه المعطيات وغيرها تشير الى تراجع كبير في دور الأسرة الدولية ومنظماتها الأممية وعلى رأسها الجمعية العامة ومجلس الأمن الدولي، والذي تورطت غالبية أعضائه الدائميين في تلك الجرائم والمحارق، والتي تنتهك فيها يومياً أبسط حقوق البشر المتضمنة في القرارات الدولية ودساتيرها ومدونتها، والتي صاغتها الإرادة الدولية بعد محنة الحربين العالميتين (الأولى والثانية) ومثل محورها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. ما يحصل حاليا من ضعف وعجز وهشاشة وتواطؤ من قبل الأسرة الدولية وقواها الفاعلة، يعكس حالة الانحدار والتقهقر الى حيث سياسات المحاور والجبهات الفكرية والعقائدية وبالتالي المسارب والخيارات التي ألحقت بالشعوب والبلدان والأمم أفدح الهزائم والأضرار، وهي في نهاية المطاف لن تخدم سوى تجار الحروب وسماسرتها من شتى الرطانات والعناوين، من الذين لا أمل بشفاءهم من تطلعاتهم العدوانية والشرهة. لكن الأمل في أن تسترد الأسرة الدولية دورها المسؤول والحكيم والمنسجم مع روح عصر حولته الثورات العلمية والقيمية الى قرية؛ سيبقى قائماً رغم أنف الكوارث والخيبات الراهنة. إن مهمة إعادة بناء مضاربنا المنكوبة بهذيانات الدمار الشامل أصبحت اليوم مهمة وطنية وأممية، كي تسترد وضعها كأوطان قابلة للعيش الآمن والكريم..
جمال جصاني
الأسرة الدولية والدور المنشود
التعليقات مغلقة