عندما تفسد “النخب”

لا يتناطح كبشان على مكانة ودور النخب الحقيقية في نهوض المجتمعات والشعوب والأمم، بوصفها الرافعة الأساس لاستقرارها وتطورها وازدهارها، وهذا ما دونته بجلاء التجارب المتنوعة والمريرة لسلالات بني آدم قديماً وحديثاً. هذه الشريحة الاجتماعية وبالرغم من مكانتها المميزة، تخضع لما يعيشه مجتمعها من شروط حياة وهموم واهتمامات وتحديات، وبسبب من الدور الخطير الذي تضطلع به في صناعة وصياغة الثقافة والوعي والرأي العام، فإنها تصبح على رأس أولويات واهتمامات الطبقات والجماعات المتنفذة سياسياً واقتصادياً في الدولة والمجتمع، وهذا ما جرى وبقوة زمن النظام المباد عندما تمكن من فرض هيمنته المطلقة على مقاليد أمور الوطن والناس، حيث تسللت شبكاته الأمنية والسياسية والثقافية والإعلامية الى تفصيلات حياة العراقيين، ولم يكن ذلك بمعزل عن الفتوحات التي حققتها أجهزته السرية على تضاريس “الانتلجينسيا” أي ما تبقى من حطام النخب، والتي خضعت طمعاً بالموائد والجوائز أو خوفاً من المصائر المأساوية التي تنتظر من يبقى أميناً لعقله ووجدانه. وهكذا أصبح عسيرا على المتابع للمشهد العراقي الراهن، وبالرغم من مرور عقد ونصف على زوال النظام المباد، العثور على شخصيات تمثل امتداداً لما عرفه العراق من نخب وطنية وعلمية وأدبية قبل سقوطه بمستنقع التوليتارية (1963-2003) كالزعيم الوطني جعفر ابو التمن في المجال السياسي، وعبد الجبار عبدالله في مجال العلوم وعلي الوردي في علم الاجتماع وطه باقر في التنقيب والآثار وجواد سليم في الفن والنحت وأول وزيرة في تاريخ المنطقة الحديث الدكتورة نزيهة الدليمي والجواهري وفيصل السامر وسلسلة طويلة من المفكرين الأحرار والعلماء والأدباء، من الذين وضعوا بصمتهم المميزة في شق الطريق صوب الحداثة وتحديات عصرنا الواقعية لا الخرافية المثقلة بثارات القرن السابع الهجري كما يجري اليوم.
في فهم حالة ما يعرف بـ “النخب” حالياً والدور المغاير الذي يلعبه غالبية المنتسبين لناديها، والمتنافر والمسؤولية التي أشرنا اليها؛ يمكن أن ندرك جوانباً مهمة من الانسداد الحالي للآفاق، وعجزنا عن انتشال مشحوفنا المشترك مما انحدر اليه من بؤس الحال والاحوال. لا يحتاج المتابع الحصيف الى كثير من الجهد والتنقيب كي يكتشف حجم اغتراب هذا الحطام من “النخب” عن الهموم التي شغلت تلك القافلة المتوهجة من المفكرين والعلماء الاحرار الذين برزوا في الأربعينيات والخمسينيات من القرن المنصرم، ونوع القيم وهرم الأولويات المختلف تماماً عما هو سائد اليوم في هذا الحقل الأشد تأثيراً في حياة المجتمعات والأمم. ما تعرضنا له من هزائم في هذا الحقل الحيوي، هو من مهد الطريق لكل هذه السيول من النكرات كي تتصدر واجهة وطن يفترض انه في الطريق الى الحرية والتعددية والحداثة، مثل هذه المفارقة الصارخة لم يكن بمقدورها ان تتحقق على تضاريسنا المنكوبة، لولا هذا الخلل البنيوي في دور ومكانة من يفترض انها رأس رمح المواجهات والتحولات والمشاريع التي تنتصر لكرامة الإنسان وحقوقه وحرياته. لذلك يصبح الرهان على “الشارع” وحشوده مع مثل هذا الاختلال والالتباس في المواقف والاصطفافات والتوازنات؛ خطراً ورهاناً خاسراً يلحق أفدح الأضرار بحاضر ومستقبل البلد. فمن دون وجود البوصلة السليمة والتي يشكل عمادها الأساس النخب الشجاعة والمسؤولة لا المعطوبة والذيلية، ستتحول كل فزعات الإصلاح والتغيير الى رصيد إضافي في حسابات قوارض المشهد الراهن وحيتانه الشرهة..
جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة