لا فراغ في العراق !

ذعر لا حدود له عصف بنا، بعد سيل التحذيرات التي أطلقها نجوم الفضائيات والمنصات الإعلامية وخبراء القانون ولا سيما، المتخصصون منهم في الشؤون الدستورية؛ حول الفراغ الذي سيعيشه العراق دستوريا وسياسياً بعد أن يصل البرلمان (الذي قضى نحبه منذ ثلاثة أشهر) الى موعد رحيله الدستوري، من دون استلام القافلة الجديدة من البرلمانيين لمسؤولياتهم التشريعية والرقابية. لكن وبعد مرور كل هذا الوقت من (الأيام والأسابيع والأشهر) اكتشفنا أن كل ذلك كان بعيدا عن الواقع، إذ الأمور كما هي ولم يشعر العراق والعراقيين بأي فراغ يذكر، فالسلطات موزعة لدينا وفقاً لنفوذ الكتل وهيمنتها الاجتماعية والسياسية والمناطقية، كما أن غالبيتها لا يعوزها السطوة والسلاح والسنن والتشكيلات اللازمة لضبط إيقاع البشر والحجر. ها نحن ومن دون وجود أعلى سلطة تشريعية ورقابية، نواصل سيرتنا المعروفة في شتى مجالات الحياة، ولم ينقصنا سوى نقل فضائية العراقية لجلسات مجلس النواب التي يجد فيها البعض منا، مناسبات للمتعة والتسلية، بعد مشوار من الضيم والملل والتعب.
السؤال الذي تطرحه مثل هذه المفارقة، يسلط الضوء حول حقيقة امتلاكنا لسلطة الدولة والقانون، بالمعنى الحديث لهذا المفهوم، أم أن الواقع الفعلي لنا يدار من قبل مؤسسات وتقاليد وسنن ما قبل الدولة الحديثة..؟ مثل هذه الوقائع والأحداث تشير الى امتلاكنا لاحتياطيات هائلة من قوى وسلطات ما قبل الدولة، لذلك لا يضيرنا بشيء إن فرطنا أو تجاوزنا بنوداً ونصوصاً ومدداً زمنية حددها الدستور وما يتجحفل معه من أحكام وقرارات تتعلق بمشروع (الدولة الوطنية) لم نوفق بصياغة عقده الاجتماعي ومؤسساته وتقاليده منذ لحظة استيرادنا لملك من الحجاز حتى يومنا هذا. من يتابع مجريات الأحداث عندنا، لن يجد صعوبة في اكتشاف حقيقة بقاء غالبية القرارات والتشريعات التي صيغت وشرعت من أجل إنجاز مهمات ما يعرف بـ (مرحلة العدالة الانتقالية) والتحول صوب النظام الديمقراطي؛ مجرد حبر على ورق. إذ تم إفراغ غالبية تلك القوانين والسلطات والهيئات والمفوضيات وغير ذلك من تشكيلات مرحلة ما يفترض أنها تؤسس للحرية والتعددية والحقوق، من محتواها لتتحول الى ذخيرة إضافية لكثبان الفشل والفساد الذي أورثتنا إياه المرحلة السابقة.
أما الشيء المهم الذي يمكن تلقفه من هذا الاكتشاف المذهل؛ فيتعلق بهذه الطبقة السياسية التي تلقفت زمام أمور عراق ما بعد “التغيير” وكونها ليست فائضة عن الحاجة وحسب بل إن وجودها يلحق أبلغ الضرر بمصالح الوطن وشعوبه ومشروع الدولة الحديثة، وهذا يتيح للعراقيين إمكانية الاستعانة بقدرات أجنبية مجربة لإنجاز مثل هذه المرحلة الانتقالية، وبمصاريف ومخصصات لا تتجاوز عشر معشار ما شفطته هذه القوارض البشرية. لا سيما وأننا كشعوب وقبائل وملل قد برهنا على قلة حيلتنا في مجال إزاحة مثل هذه العصابات زمن النظام المباد وبعده، لذلك سيكون الاستعانة بالخبرات والقدرات الضاربة الأممية، بمنزلة القرار الصائب والحكيم لمثل هذه المرحلة المرعبلة التي يمر بها هذا الوطن المنكوب. وعلى سبيل المثال يمكن الاستعانة بمدعي عام دولي مخضرم مع فريق عمل يختاره ويكون مدعوماً من قبل قوة أممية مسلحة ومسنودة من مجلس الأمن الدولي، كي يتعاطى مع هذا الكم الهائل من الأضابير، والتي تتقافز من بين ردهاتها سلالات لا مثيل لها من القتلة واللصوص والمشعوذين. لا فراغ في العراق لأن مثل هذه القوافل والجماعات التي تمددت على تضاريسه الرسمية منها والشعبية كفيلة بسد كل الفراغات..!
جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة