لم يعد أمر تفشي وباء الفساد بكل أشكاله وأحجامه وشبكاته الممتدة لتفصيلات حياة المجتمع والدولة العراقية سراً، فقد وصلت رائحته الى المنظمات الدولية المعنية بمثل هذه الملفات في حياة الشعوب والأمم، إذ لم تتأخر بإصدار سلسلة من التقارير حول مآثرنا الوطنية في هذا المجال (يحتل العراق المرتبة 169 من بين 180 بلدا وفقاً للتقارير الأممية). ومن الأهمية بمكان الإشارة الى أن جذور هذا الوباء تمتد الى ما قبل زوال النظام المباد، لا كما يسعى البعض في الترويج له بوصفه ضيفا غريبا حل فجأة على مضاربنا مع الطبقة السياسية التي تلقفت مقاليد أمور البلد بعد “التغيير”. لذلك فوجود الفساد وتمدده وتعزز سطوته وحده، لن يكون شرطاً للتغيير والثورة على الوضع القائم كما يتوهم ويوهم غير القليل من الذين تلبستهم روح المغفور له سبارتكوس في الوقت الضائع. بالرغم من التحولات العميقة التي لحقت بمفهوم الثورة شكلاً ومضموناً، واتخاذ الشعوب والأمم مسارات وسبل وخيارات اخرى لفك اشتباكاتها المحلية والخارجية، بعد ما راكمته التجارب المريرة على ذلك الطريق من عبر ودروس؛ إلا ان “ثوار الوقت الضائع” لا يعيرون اهتماماً لا للبعيد منها وحسب، بل حتى القريب منهم (حصاد ربيع العرب) والذي تقاسمته جماعتي الإخوان والعسكر وما يتفرع عنهما من ذيول ويافطات.
ان تفشي الفساد يدفع ضمن مناخات معينة الى اندلاع احتجاجات قد تأخذ مديات شتى، لكنها في نهاية المطاف تعجز غالبيتها في الحد من نفوذ وهيمنة شبكات الفساد الاخطبوطية، والسبب يعود لعدم احتضانها وتبنيها لما يمثل الضد النوعي للفساد والفاسدين، لا كأفراد وجماعات وهياكل وحسب، بل كأفكار ومعنى ومنظومة قيم تقدم البدائل الحضارية المتناغمة وتحديات العصر. هذا هو الشرط الاساس لنجاح مشاريع التغيير والإصلاح، وهذا ما عرفته كل الشعوب والأمم التي وصلت لسن التكليف الحضاري، وهذا ما تدركه جيداً قوى التخلف والفساد، حيث تسعى بكل ما لديها من قوى ومكر ودهاء لامتطاء مثل تلك الموجات الاحتجاجية وفتل عنقها صوب غاياتها، كما حصل مراراً لدينا ومع المتجحفلين معنا بهلوسات خالدة. كما ان هذه النهايات الظافرة لصالح قوى التخلف والفساد تستند على أساس وطيد من الشبكات الاقتصادية والاجتماعية والقيمية، التي ظلت سالمة ومطمئنة وسط كل أنواع العجاج الذي تطلقه عليها القوافل الثوروية العابرة، وهي لن تتوانى عن ضخ ومد معسكر الفساد والركود والتقليد بكل ما يحتاجه من دعم مادي وتعبوي. لا احد ينكر حاجة المطالب المشروعة لقطاعات واسعة من العراقيين وبنحو خاص شريحة الشباب منهم، الى الدعم والحماية، غير انها بحاجة أكبر الى الوعي والحكمة وحسن التدبير، والذي بمقدوره وحده قيادتها صوب المسارب الآمنة التي تضمن لهم انتزاع حقوقهم العادلة والمشروعة. ان مشاعر الإحباط وحدها لا تكفي، ومن دون تحصين النشاطات الاحتجاجية بمستلزماتها وشروطها المعروفة، التي تحدد هويتها وتطلعاتها بدقة ووضوح، يعني التفريط بهذه الموجة من الجهود والتضحيات الى حيث تصفية الحسابات المحتدمة بين حيتان اتقنت التعاطي مع مثل هذه الفزعات. كما ان المبالغات والمزاودات والتي تحاول عبثاً تقديم الاحتجاجات، بشكل لا يتناسب إطلاقاً وقدراتها الفعلية، لن تقل ضرراً عما يلحقه المتربصون بها. بعيدا عن قراصنة المنعطفات التاريخية يمكن لهذه النشاطات وغيرها من الوسائل والسبل المجربة؛ ان تؤسس لحيوية ومشاريع تنتشل مشحوفنا المشترك من مستنقعات الركود والفساد المحيطة به..
جمال جصاني
الفساد وحده لا يكفي
التعليقات مغلقة