وصل بؤس الحال بعدد من الباحثين عن المجد والمآثر “الفضائية” لأن ينبش وعبر اية وسيلة كانت، عما يمكن ان يفتخر به، بعد ان شحت عنه الاقدار في هذا المجال. ومن اكتشافات حفرياتهم تلك؛ وجد البعض انهم لم يتركوا العراق زمن النظام المباد، ولم يحصلوا على جنسية بلد آخر، كما فعل الآخرون عادين ذلك ذروة التضحية والايثار من أجل الوطن وجنسيته..! الحقيقة فان مثل هذه “المآثر والبطولات” الدونكيشوتية لا تظهر الا في العراق وعدد قليل من المضارب المنكوبة بمثل ما ابتلي به هذا الوطن القديم، وهذه قضية تحتاج الى عناية واهتمام بالغين، لا سيما من الجامعات ومراكز البحوث الرصينة. ان الهجرة من الاوطان تعد اليوم من القضايا التي تشغل المجتمع الدولي برمته، وتقف خلف ذلك حزمة من الاسباب والعلل التاريخية والموضوعية والذاتية، بمقدور المتابع الحريص التعرف عليها عبر التقنيات والوسائل التي اتاحتها علوم التواصل والاتصالات الحديثة. أما الهجرة من العراق فانها ظاهرة جديدة عرفها العراقيون بشدة ووضوح، مع بداية الستينيات من القرن المنصرم، وكان لها على الغالب اسباب سياسية، بعد سلسلة انقلابات وحروب انتهت بنا الى (جمهورية الخوف) والتي انتشلتنا منها الامدادات العابرة للمحيطات، مما اضطر البعض منا لطرق دروب البطولات الفاشوشية.
الجنسية الثانية ليست عاراً كما يحاول البعض تصويرها وترويجها استناداً لمعطيات ومبررات مقطوعة عن سياقها، ومناخات واوضاع عراق ما بعد “التغيير”، حيث تلقى تبعات ما يحصل في جميع الجبهات على حامليها، لان عدد من المنتسبين للطبقة السياسية التي امتطت سنام السلطات يمتلكون جنسية بلد آخر غير العراق. هذا المنطق المشوه نفسه يمكن ان يشمل ما تبقى من العراقيين ، حيث الكثير من شركاء هذه الطبقة السياسية هم ممن لم تمنحه الاقدار فرصة الهجرة والغربة وامتلاك جنسية اخرى. ان اشغال الناس بمثل هذه الاهتمامات البائسة، تزيد من عتمة والتباس المشهد الراهن، وتبعدهم عما يفترض الاهتمام به والالتفات اليه من هموم وتحديات حقيقية. مثل هذا الهرم المقلوب للاولويات والهموم، يتيح للفاسدين واللصوص والمشعوذين الفرصة للاستمرار بنهش حاضر ومستقبل البلد، وكما اشرنا فان العراق لا يحتاج الى المزيد من بضائع وشعارات الفرقة والتشرذم مثل؛ عراقيو الداخل وعراقيو الخارج على سبيل المثال لا الحصر. ان الشروط والمناخات المريضة وحدها هي من تدفع للتعاطي مع تجاربها الذاتية، بهذا الشكل المثقل بروح الكراهية وشيطنة الآخر المختلف. كعراقيين من شتى الرطانات والهلوسات والازياء، بامس الحاجة اليوم الى التراص والانسجام، والى تلاقي الروافد السليمة داخل الوطن وخارجه، لا حشرنا بفسطاطين جديدين وفقاً لمعايير يعجز عن فك طلاسمها الراسخون بعلوم عالم مزق شرنقاته الضيقة الى ما سماه الكاتب الفرنسي من اصل لبناني امين معلوف بـ (المواطن متعدد الهويات).
بالنسبة لي شخصيا وبالرغم من رفضي للعديد من الفرص للخروج من العراق، الا انني وتحت ضغط ظروف قاهرة اضطررت لذلك السبيل، على أمل العودة باقصر وقت ممكن، الا ان الامر جرى كما في المثل المعروف (تقدرون وتضحك الأقدار) حيث استمرت الغربة لربع قرن (1979-2004) صحيح انني لم امتلك حتى هذه اللحظة غير الجنسية العراقية؛ الا انني اتفهم جيداً الظروف والشروط القاسية التي دفعت باعداد هائلة من العراقيين للهجرة الى حيث الوثائق والملاذات التي تنتصر للانسان ولا تعيره وتسيء اليه لاتفه الذرائع والاسباب..
جمال جصاني
مآثر من هذا الزمان
التعليقات مغلقة