الاحتجاجات وهرم الأولويات

لدينا كعراقيين (جماعات وأفراد) ركام هائل من المبررات والذرائع لا للشكوى والتذمر والاحتجاج وحسب، بل لدى البعض تصل مشاعر الغيظ والغضب الى التمرد المسلح، كما حصل مراراً وتكراراً زمن النظام المباد وبعد زواله، عندما أعادت قوارض حقبة الفتح الديمقراطي المبين تقسيم أسلاب الغنيمة الأزلية حصرا بين حيتانها وأتباعها، لتنتقل قوارض النظام المباد الى معسكر المتضررين والمهمشين وهكذا دواليك.. مثل هذه الخلطة من الدوافع والغايات لن تصنع احتجاجات تفضي لتقويم وإصلاح واقع حال بلد أنهكته الحروب والمغامرات وتقاليد الفرهود. وهذا ما أكدته الجولة الأخيرة من الانتخابات النيابية وما تمخض عنها من نتائج وتداعيات، جسدت بشكل لا يقبل الجدل والتأويل ما حصدناه من وغف الاحتجاجات التي لم تنقطع طوال عمر البرلمان الذي قضى نحبه قبل أسابيع قليلة. إذن ما جدوى كل ذلك الصراخ والصخب والعجاج تحت نصب جواد سليم وغيره من الساحات والميادين، إن كان لا يفضي لغير إعادة تدوير وترميم اللعبة نفسها والمحافظة على هيبة حيتانها ومتنفذيها..؟
لقد أشرنا ومنذ اللحظة الأولى لمخاطر محاولات استنساخ تجربة “الربيع العربي” وتظاهراته وتنسيقياته (التي نقلها البعض حرفياً لتظاهرات شباط من العام 2011) فوضع العراق مختلف جذرياً عن البلدان التي اندلعت فيها الاحتجاجات وأدت الى سقوط أعتى قلاع الدكتاتورية في المنطقة (ليبيا وتونس ومصر واليمن..) فالعراق يعيش تجربة الانتقال (بزينها وشينها) من نظام توليتاري الى آخر ديمقراطي، وهو تحول شاق ومرير يحتاج منا الى الكثير من الجهد والوعي والقرارات الشجاعة والوقت، كي نتمكن من صنع وامتلاك مقومات ذلك التحول النوعي في تاريخ العراق الحديث. لا احد ينكر حاجتنا كعراقيين الى ممارسة مثل هذه النشاطات الحضارية المجربة (الاحتجاجات السلمية) بعد اغتراب وانقطاع طويل عنها. لكن ذلك لا يدعونا لأن ننسى ما وفرته لنا المرحلة الجديدة من وسائل وآليات فعالة ومجربة في صنع التحولات الجذرية؛ ألا وهي صناديق الاقتراع والتشريعات التي تحمي وتنتصر لعملية الانتقال السلمي للسلطة وبالتالي تحقيق المطالب المشروعة لشتى شرائح المجتمع، وفك الاشتباكات عبر أرقى منظومة أوجدها البشر. إننا بحاجة الى ممارسة النشاطات التي تدعم وتعزز التجربة الديمقراطية ومؤسساتها وثقافتها، لا أن تتحول الى وسيلة وأداة لإسقاط التجربة السياسية الفتية، كما أفصحت عنه ممارسات ويافطات بعض القوى المسكونة بحلم عودة الفردوس المفقود. لقد شاهدنا كيف تحولت بعض الاحتجاجات مقطوعة الجذور؛ الى وسيلة لدى بعض القوى المتنفذة لتصفية حساباتها مع منافسيها، وكيف تم استعمال مثل هذه الحقوق والحريات بشكل يتنافر وروح هذه الممارسات. ان واقع حال بعض التظاهرات والاحتجاجات، والعنتريات الفارغة للبعض من الحكومات المحلية ومحافظيها، تذكرنا بعبارة نابليون المشهورة: (جيش من الأسود يقوده غزال لن يكون جيش من الأسود) فالاحتجاجات من دون فكر وروئ وزعامات لائقة، لا يمكن ان تفضي لغير المزيد من الضياع والخيبات، كما ان الغضب وحده لن يفضي لحل. مشكلة المشروع الوطني والحضاري ليست مع النظام السياسي الحالي، بل مع الطبقة السياسية التي تلقفت زمام أمور هذا النظام، وغالبية كتلها لديها مشكلة عميقة مع هذا النظام المفروض عليها دولياً، مشكلتنا الفعلية مع قدراتنا المتواضعة والمحدودة على تفعيل آليات وسلطات وروح هذا النظام، مشكلتنا مع عجز وخلل وعيوب تشرع الأبواب لقوى الردة والتخلف والتشرذم كي تمتطي حاجات الشارع واحتجاجاته..
جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة