عندما نتصفح شيئاً من تجارب الشعوب والمجتمعات والدول، نجد بعضها قد اجترحت بوقت قياسي، ما يشبه المعجزة في الارتقاء باحوالها المادية والقيمية الى ذرى لم تعرفها من قبل. وبالمقابل هناك من انحدرت أوضاعها الى مستويات من الانحطاط لم تكن تتوقعها في أكثر حالاتها تشاؤماً وسوداوية (كما جرى مع هذا الوطن المنكوب قبل التغيير وبعده). في تعقب العلل والاسباب الفعلية التي تقف خلف كلا المصيرين (الازدهار والانحطاط) نجد ان (اسلوب الحياة) الذي اختاروه أو فرضته الاحداث والتطورات عليهم، هو من يقف خلف ذلك كله، فالمجتمعات والبلدان التي اكرمتها الاقدار باسلوب حياة مترع بقيم العمل والانتاج والابتكار، ونظم ومؤسسات تصون الحقوق والحريات، وتحرص على اقتفاء اثر الحداثة والعقلانية والتجدد، حصدت ثمار الانتقال الى حياة يسودها الأمن والاستقرار والازدهار المادي والقيمي. وبالمقابل حصدت البلدان التي عجزت أو أخفقت في استيعاب “المعنى الجديد” للحياة وتبني اسلوبها الراقي للعيش، واختارت البقاء مع نمط حياتها الطفيلي المثقل بفواتير العبودية والخنوع والاستبداد، بكل ما يحمله من آثار مدمرة سياسياً واجتماعياً وقيمياً؛ المزيد من الخيبات والكوارث. ولنا كعراقيين تجارب مريرة مع هذا النوع من خيارات الدمار الشامل (قبل التغيير وبعده) فمن نظام شفط كل الحريات والثروات والحقوق، الى ورثته الذين واصلوا سبل عسكرة الدولة والمجتمع وترسيخ نمط الاقتصاد الريعي وزج ملايين جديدة الى نادي الموظفين الحكوميين (عيال النفط) وغير ذلك من السياسات التي رسخت لنا اسلوب حياة يضمن لنا مقعداً دائماً في متحف المنقرضات.
ان عجزنا وفشلنا المستمرين في التصدي للدكتاتورية سابقا، ولمهمات الانتقال صوب الديمقراطية والدولة الحديثة حالياً، يستند الى الاحتياطات الهائلة من التفسخ والتشرذم الذي يوفره هذا الاسلوب الطفيلي للحياة، حيث تشح فيه قيم التعاون والتسامح وروح المسؤولية والايثار وخدمة الشأن العام، لصالح هذا الطفح من الانحطاط القيمي والاخلاقي الذي يعصف بنا كأفراد وجماعات، اسلوب حياة، سمح بتسلل قوافل القتلة والمشعوذين واللصوص والنكرات نظرياً وعملياً، الى المفاصل الحيوية للمجتمع والدولة، وانتهى بما تبقى لنا من حطام الدولة، لأن يتصدر واجهة الدول الأكثر فشلا في عالم اليوم. لهذا كله لم تتحول كل هذه الهزائم والمحن التي مرت على سكان هذا الوطن القديم، الى عبر ودروس وجسور الى المستقبل، ولم نتمكن من التأسيس لبدائل حضارية وواقعية تنتشل مشحوفنا المشترك من دوامة النحس التاريخي التي لم تفارقنا منذ أكثر من نصف قرن، ومن يتقصى قليلاً في طبيعة الافكار والقناعات المعششة في عقول وممارسات وسلوك اعداد غير قليلة من افراد المجتمع، نجد العبارة التي تقول (أنا ومن بعدي الطوفان) هي الأكثر اعتماداً ورواجاً وتجلياً في سلوكهم وممارساتهم اليومية.
مع مثل هذه المناخات الموبوءة والقناعات الانهزامية الممزوجة بالتفاهات وضيق الافق، لا يمكن انتظار انعطافات جادة على طريق الاصلاح والتغيير، ولنا فيما خلفته الجولة الأخيرة من الانتخابات البرلمانية دليلا لا يتناطح عليه كبشان، على ما أشرنا اليه من انسداد للآفاق وزيف للبدائل والادعاءات التي روجت لغير ذلك من شعارات وخطابات وعناوين مقطوعة الجذور. ان اسلوب انتاج الخيرات المادية وطرق تراكم الثروة وتوزيعها البعيدان عن العدل والعقلانية والانصاف؛ هو من يقف خلف كل هذا النحس العضال الذي لم يكف عن مرافقتنا بالرغم من مرور 15 عاماً على لحظة الفتح الديمقراطي المبين..!
جمال جصاني
اسلوب حياة أم بلاء..؟
التعليقات مغلقة