المفوضية الدولية للانتخابات

لا نحتاج الى مزيد من الهدر وتجرع الهزائم والمرارات، كي نتاكد من عجزنا وفشلنا في مجال صناعة هيئات او مفوضيات مهنية ومستقلة، فقد برهنت تجربة أكثر من خمسة عشر سنة مما يفترض انه مرحلة للعدالة الانتقالية؛ على هذا الفشل والذي يستند الى حطام هائل من البشر والكيانات واشباه الاحزاب وأسمال العقائد والمنظمات والجمعيات والهياكل خلفته اربعة عقود من الهيمنة المطلقة لاكثر الانظمة السياسية والعقائدية انحطاطا واجراماً ومعاداة لكل ما يمت بصلة لروح العراق واساس ديناميكيته (تعدديته وتنوع ثقافاته). ان امتلاك مثل هذه المؤسسات الحضارية المتطورة (الهيئات أو المفوضيات المستقلة) تستدعي وجود شروط وبيئة ووعي وملاكات كي تتحول من امكانية نظرية الى واقع حي وديناميكي، وهذا ما لم تجده لدى مجتمع أكتشفت حشوده وبعد سبات أكثر من الف عام وعام؛ اهمية النبش بثارات القرن السابع الهجري المجيدة ورسائله الخالدة..! ما جرى للمفوضية العليا “المستقلة” للانتخابات من انحدار في التركيبة والوظيفة والملاكات، يعكس واقع حال العملية السياسية والقيمية والفكرية الجارية في البلد بعد زوال النظام المباد. المتابعون للشأن العراقي يتذكرون الصيغة الاولى لها (مفوضية العام 2005) وكيف مارست عملها ضمن ظروف غاية في التعقيد، لكنها نجحت بشكل لا يقارن وما قامت به المفوضية الحالية والتي لم تشفع لها الاستعانة بتقنية العد والفرز الالكتروني والتي كلفت الدولة أكثر من ربع مليار دولار اميركي. المفوضية الاولى كانت من صنع الارادة الدولية ومؤسساتها واشراف الامم المتحدة بشكل مباشر، لكن مع انتزاعنا لـ “السيادة الوطنية” وتلقف اشاوسها لمقاليد امور هذه الهيئات والمؤسسات والمفوضيات، لم يتبق من اسمها “المستقلة” سوى القشر، لنصل للورطة الحالية، حيث ترتفع الاصوات المطالبة بالغاء نتائج الانتخابات الأخيرة.
ان تقلص عدد المشاركين في الدورات الانتخابية ووصوله لادنى حد في الدورة الاخيرة (العام 2018) يعكس فشلا وخللا في العملية الديمقراطية لا كما يصوره البعض مقارنة مع نسبة المشاركة في الدول المستقرة سياسيا وديمقراطيا، حيث تختلف الامور تماما عما يحصل على تضاريس هذا الوطن المنكوب بسرديات واناشيد القوافل الغابرة. ان هشاشة الوضع السياسي والاجتماعي والقيمي والقانوني، وطبيعة الطبقة السياسية وكتلها وحيتانها المهيمنة، سمح بتحول هذه المفوضية الخطيرة الى مجرد اقطاعيات تابعة للقوى المتنفذة، لتتحول بذلك من صمام أمان للعملية الديمقراطية الفتية الى مجرد حارس لصيانة المصالح والمكاسب الفئوية الضيقة لتلك الطبقة السياسية المتخلفة والتي الحقت ابلغ الضرر بحاضر البلد ومستقبله. ان تحرير بوابة التحول الحقيقي صوب المجتمع الديمقراطي والدولة الحديثة، أي المفوضية العليا المستقلة للانتخابات من قبضة هذا الوباء الوطني “المحاصصة الاثنية والطائفية” وغيلانه من شتى الرطانات والازياء، هو الشرط الاساس لاي اصلاح وتحول جدي في المشهد الراكد الذي يصر على اعادة تدوير بضائعه النافقة والعقيمة رغم انف الصناديق وما يتجحفل معها من تقنيات متطورة وحديثة. ان تحقيق هذا الشرط بامكانات وطنية يعد اليوم مهمة شبه مستحيلة، بعد ان مدت المحاصصة شبكاتها وقواتها الضاربة الى مفاصل الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية في البلد ببركة ما شفطته من اموال ومواقع وامتيازات، لذلك لا مناص من تدخل جديد للمشرط الدولي كي تسترد العملية السياسية الجارية شيئا من الامل بامكانية التقدم والاصلاح…
جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة