الصناديق وحدها لا تكفي

بالرغم من المكانة الرفيعة التي حظيت بها صناديق الاقتراع، بوصفها الوسيلة الناجعة والمجربة لفك شتى أنواع الاشتباكات بين البشر؛ إلا أنها تفقد خصيصتها الأساسية هذه من دون مستلزماتها وشروطها الأخرى، وعلى رأس ذلك وجود القوى السياسية والاجتماعية المؤمنة بالمنظومة القانونية والقيمية التي أوجدت هذه الآلية الفاعلة، وهي بدورها لا يمكن أن تمارس نشاطها المطلوب، من دون وجود التشريعات التي تقنن ذلك والأجهزة المستقلة المسؤولة عن تجسيد كل ذلك على أرض الواقع، وبما ينتصر لروحها وفلسفتها، أي الديمقراطية وقيم التعددية والحداثة.
إن تجربتنا الفتية مع (الصناديق) بعد زوال النظام المباد، تشير وبما لا يقبل الشك الى هذا العيب البنيوي في استعمالنا لهذه الآلية المجربة التي انتشلت غير القليل من المجتمعات والدول من الحضيض لتضعها بين صفوف ما يعرف بـ (الأمم الحرة) الآمنة والمستقرة والمزدهرة ذلك الخلل الذي أكدته ثلاث دورات انتخابية، لم تخفق في انتشال البلد مما انحدر اليه زمن الدكتاتورية وحسب بل وضعته ضمن قائمة الدول الأكثر فسادأ في المنطقة والعالم وفقاً لتقارير المنظمات الأممية المعنية بهذا الشأن. وهذا بحد ذاته يؤكد بشكل قاطع براءة الصناديق مما ينسب اليها من فضائح وتهم، وهي لا تعمل كما المصباح السحري لتحقق لنا كل ما نتمناه، فهي تحتاج منا منافسة انتخابية بين أحزاب وقوائم وشخصيات وبرامج وطنية، وهذا ما نجحت بمحقة تماماً؛ أربعة عقود من الهيمنة المطلقة للنظام المباد وهي تحتاج الى قوانين واضحة ولا تقبل التأويل حول تأسيس الأحزاب وهويتها الوطنية ومصادر تمويلها وعدم امتلاكها للأجنحة العسكرية وغير ذلك من الشروط التي لم توفرها غالبية القوى والجماعات المشاركة بالجولات الانتخابية. وتحتاج الى مفوضية مستقلة لا متحاصصة بين حيتان حقبة الفتح الديمقراطي المبين كما هو حاصل مع مفوضية انتخابات العام 2018. وتحتاج الى قانون انتخابات لا يكرس التشرذم في المنافسة الانتخابية بمثل هذه الأعداد الهائلة من أشباه الأحزاب والطارئين على النشاط السياسي، ولا يسمح لولادة برلمان لم يصل غالبية أعضائه الى العتبة الانتخابية، ليصبحوا في نهاية المطاف اتباع لا حول لهم ولا قوة أمام أصحاب الفضل عليهم في اكتساب مثل هذه المواقع الخطيرة في رسم حاضر ومستقبل سكان هذا الوطن المنكوب.
صحيح أن البعض مما أشرنا اليه تتضمنه القوانين والتشريعات المعمول بها حالياً، غير أنها ظلت حبراً على ورق، لأسباب تتعلق بطبيعة الأجهزة والسلطات المسؤولة عن متابعة تنفيذ تلك الفقرات والبنود، والتي يؤدي تنفيذها الى الاصطدام بإقطاعيات حيتان المشهد الراهن. وبهذا الشكل تم إجهاض الجوانب الحيوية فيها، وهذا ما حصل مع المفوضيات التي افترضها الدستور العراقي “مستقلة” حيث لم يبق من استقلالها سوى الاسم. إن المعطيات الأولية لواقع حال العملية السياسية الجارية حالياً، وطبيعة الهموم والاهتمامات ونوع التحالفات والاصطفافات، تؤكد على أن النتائج التي ستتمخض عنها صناديق انتخابات العام 2018 لن تختلف كثيراً عن الدورات السابقة، والتي لم تخلو بطبيعة الحال من التغيرات الطفيفة والتي لا تتناسب وحجم تحديات المرحلة المقبلة، لكن الأمل سيبقى معقوداً على أن متطلبات ما يفترض أنها مرحلة إعمار وإعادة بناء ستحتاج الى مواقف وقرارات شجاعة ومسؤولة، تضع نصب عينيها ما افتقدته الصناديق في دوراتها السابقة..
جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة