برامجنا ودغل الحوار

لم يمر وقت طويل على زوال النظام المباد ربيع العام 2003 حتى امتلأ الأثير بعدد كبير من الفضائيات والإذاعات المحلية كبديل عما كان سائداً من إعلام شمولي زمن الدكتاتورية. وبسبب من الاغتراب والانقطاع الطويل عن التواصل عما يحيط بنا، فقد تضرر هذا المجال الحيوي (الإعلام) بشكل كبير، وهذا ما حصدناه مع غيلان تلك الحرية والتعددية التي منحتنا إياها الأقدار العابرة للمحيطات، حيث صارت غالبية تلك المؤسسات نهباً لحواسم وحيتان حقبة “الفتح الديمقراطي المبين”. لقد انعكس كل ذلك بشكل سافر في برامج تلك الفضائيات وبنحو خاص في (البرامج الحوارية) التي حصدت الاهتمام الأوسع بين بقية البرامج. لكن السؤال هو؛ ما الذي حققته غالبيتها، وهل انتصرت حقاً لمغزى ووظيفة الحوار المعرفية والقيمية والإعلامية..؟
بلا شك فأن الإجابة التفصيلية والموثقة عن هذا السؤال وغيره الكثير، هو من تخصص هذا الكم الهائل من الجامعات ومراكز البحوث والدراسات، لكن تجربتنا الطويلة معهم زمن النظام المباد وبعده، تدعونا لعدم إهدار الوقت بانتظار مثل تلك النشاطات والاهتمامات، المثيرة لوجع الرأس، والمصدعة لمناخات السكينة والإطمئنان في ردهاتها وقاعاتها الراكدة. بعيدا عن المتابعة التفصيلية التي أشرنا اليها، بمقدورنا التعرف على أحد أهم أركان الحوار، ألا وهو طرح الأسئلة التي تفضي الى حصول المتلقي على المعلومة والمعرفة التي تساعده في تلمس طريقه وسط كل هذه العتمة والغيبوبة التي يتخبط وسطها، لا تسخير تلك البرامج لخدمة أجواء التشرذم بشتى أشكاله الطائفية والإثنية والمناطقية والاجتماعية. ومن خلال تقصي مجريات الأحداث ودور هذه البرامج، نجدها غير بريئة عما حصدناه من محن وكوارث، فمن خلال اقتفاء الكثير منها لأنموذج برنامج (الرأي الآخر) في قناة الجزيرة القطرية، شاركت وبشكل ممنهج في قطع سبيل وصول المعلومة والمعرفة المتوازنة للمتلقي، وروجت لأشباه الحقائق ودغل المعلومات الضروريتان لديمومة مشاعر الكراهية وعدم الثقة بين سكان الوطن من شتى الرطانات والأزياء. ومن المؤسف أن مثل هذه الأدوار ما زالت تحظى بالقسط الأكبر من التمويل والاهتمام، كما أنها لم تواجه بنشاط مضاد من قبل ما يفترض أنها (برامج) تضع نصب عينيها مسؤولية إيصال المعلومة والمعرفة الضروريتان للمتلقي في مواجهة كل هذه السيول المحلية والإقليمية والدولية، من الخطابات الديماغوجية والشعبوية والتضليلية، والتي ازدادت ضراوة وخبثاً مع بدء العد التنازلي لإجراء الانتخابات. ومن الأهمية بمكان الإشارة الى الدور الذي لعبه الكثيرون ممن تنطع لأداء مهمة مايسترو الحوار، أي المحاور، فقد ساعدت مناخات ومعايير هذا الزمان؛ على تسلل الكثير من أشباه الإعلاميين لهذا الموقع المهم، وقد ألحق ذلك ضررا فادحاً بعقل وذائقة المتلقي، حيث الكثير منهم يفتقد لأبسط ذخيرة ثقافية ومعرفية تؤهله لإجراء لا الحوارات مع القيادات السياسية والثقافية وحسب بل يفشل في اللقاءات المباشرة مع عامة الناس، وهذا ما لم يحصل إلا في مضاربنا المنكوبة بالأمية والشعوذة واللصوصية والمحسوبية. من دون وجود محاور مثقف بالمعنى الدقيق لهذه المفردة، وتقترن ملكاته هذه بروح الشجاعة والمهنية والمسؤولية في إدارة الحوار؛ لا يمكن لهذه البرامج تحقيق ما وجدت من أجله، بوصفها فلتراً لا يسمح بمرور الأكاذيب ودغل الحقائق، كما يحصل بهمة الكثير من المتحذلقين والمتواطئين في صناعة وإعداد وتقديم هذا النوع من الحوارات مدفوعة الثمن…!
جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة