عناوين ملتبسة

إن رواج مفردة “المدنية” ومشتقاتها في المشهد الراهن، ينسجم وطبيعة الالتباس والتشابك الحاصل على مسرح أحداث عراق ما بعد “التغيير”. هذا الانتشار الواسع لها لم يكن عبثاً، فهي جاءت متناغمة وطبيعة القوى والاتجاهات والأجندات التي رافقت الصدفة التاريخية التي أزاحت النظام القديم وسلطته المطلقة على تفصيلات حياة سكان هذا الوطن المنكوب. ما اندلق عن رحم ذلك “التغيير” طفح هائل من الجماعات والعصبيات والتشكيلات لا علاقة لها لا من قريب ولا من بعيد، بالتنظيمات والأحزاب السياسية بالمعنى الحديث لهذه العناوين، ويزيد المشهد ضياعا والتباساً ما تبقى من سكراب الأحزاب القديمة التي لا تتجرأ على مواجهة حقيقة انضمامها لنادي “الاكسباير” منذ زمن بعيد، كل هذا وغيره؛ جعل من هذه المفردة الهلامية المبهمة (المدنية) ملاذاً لطيف واسع من هذه الجماعات القديمة منها والجديدة، وهذا ما نشاهده بوضوح عندما أصبحت هذه المفردة المسالمة نهباً للجميع، بما فيها المنتسبين لنادي الإسلام السياسي.
العد التنازلي لموعد إجراء الدورة الرابعة لانتخاب مجلس النوّاب (12/5/2018) ابتدأ، حيث انطلقت الحملات الانتخابية لأكبر ماراثون يضم أعداداً من الأحزاب والكيانات السياسية يفوق ما تشهده أكبر ديمقراطيات العالم (الهند بنفوسها التي تتجاوز المليار)، وهي أرقام لا تمت للحيوية والتعددية بصلة، بل هي تعكس حالة التشرذم والضياع والعجز عن قيادة البلد الى حيث التحولات المنشودة في الاستقرار والبناء والازدهار. ومن الأهمية بمكان الإشارة الى أن “أولي الأمر الجدد” يحرصون جيداً على إدامة حالة التشرذم الاجتماعي والوطني هذه، فهم وضعوا التشريعات وقواعد للعب تتقافز على ساحاته كل هذه الأعداد الهائلة من أشباه الأحزاب والكيانات. انسداد الآفاق هذا وضعف الحيلة في صنع البدائل الواقعية، دفع اليائسون من رحمة الأقدار الى صناعة الأوهام والهروب الى الأمام، وهذه المرة عبر ما أطلقوا عليه بالتيارات المدنية، والتي برهنت مبكراً عن فشلها في توحيد فصائلها الضئيلة العدد والعدة في تحالف يستند الى شعارات وبرنامج واضح المعالم، حيث الاضطراب والغرابة في الطرح والخطابات واختيار الحلفاء، هي السمة البارزة لسلوكهم وقراراتهم ودقلاتهم، كما أن غير القليل من شخصياتهم تسللت الينا من متحف الديناصورات السياسية.
في كل جولة انتخابية يراد منها إعادة تدوير نفس البضائع السياسية والقيمية النافقة، تحتاج أن يرافقها شيء من الأوهام والبدائل الكارتونية، كي يتم التستر من خلالها على العيوب البنيوية لمثل هذه الممارسات الديمقراطية المفرغة من محتواها الحضاري والحداثوي، وفي جولتنا الحالية تتقدم العناوين المدنية للعب مثل هذه الأدوار، والتي تعيق في نهاية المطاف وصول المعلومة الحقيقية والوعي العميق لمن يفترض به النهوض بالتحولات الديمقراطية المنشودة. لقد كشفت الجولات الانتخابية جميعها عن وجود خلل بنيوي عميق، يعيق حصول أية تحولات فعلية لصالح ما يفترض أنه مرحلة انتقالية صوب الديمقراطية ودولة المؤسسات الحديثة، وهذا الخلل كما يعرف غير القليل منا، يستند الى إرث راسخ وعميق من الخراب البشري والقيمي الذي خلفته أربعة عقود من حكم شمولي وصلت بصمته الملوثة لكل تفصيلات حياة العراقيين داخل الوطن وخارجه. إن مواجهة هذا الإرث الثقيل للعبودية والإذلال الممنهج وورثته الجدد من اللصوص والمشعوذين قيمياً ومعرفياً لن يكون بلعب دور الذيول وامتشاق التسميات الملتبسة وتبادل التخادم مع هذه الطبقات التي لا تجيد غير إلقاء القبض على الضحية وإطلاق سراح الجاني..
جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة