تلغيم المكان المناسب

لا يتناطح عنزان على أهمية وحيوية أحد أهم مبادئ ومعايير الإدارة الرصينة، المعتمدة لدى المجتمعات والدول التي أكرمتها الأقدار بالاستقرار والازدهار؛ ألا وهو (الشخص المناسب في المكان المناسب). بالرغم من بساطة العبارة ووضوحها الشديدين، إلا أن تحولها الى واقع في مثل البيئة والمناخات السائدة في مضاربنا المنحوسة بكل ما هو معاق من القيم والمعايير؛ يعدّ مهمة شبه مستحيلة، وقد شهدنا معاً ما حصل لأسلاب النظام المباد وبقايا مؤسساته، بعد حقبة الفتح الديمقراطي المبين، عندما تلقفت مقاليد أمور البلاد والعباد، نوع من القوى والجماعات والعقائد والقوافل، جعلت وفي مدة قياسية مهمة التحول والانتقال الى دولة القانون والمؤسسات، أشد عسراً وتعقيداً عما كانت عليه قبل أن ينبروا لاستلام الأمانة التاريخية. هناك الكثير من الكوارث التي حلت على مؤسسات الدولة والمجتمع طوال 15 عاماً من “التغيير” لكننا سنكتفي اليوم بتسليط الضوء على المبدأ والمعيار الذي أشرنا اليه، أي اختيار (الشخص المناسب للمكان المناسب) والذي تحول الى شيء آخر يمكن تدوينه بالشكل التالي (تلغيم المكان المناسب) عبر اختيار الشخص البعيد كل البعد (خصالاً وكفاءة ومؤهلات) عن الموقع والمهمة الموكولة اليه. معيار الخراب الشامل هذا، يلحق أفدح الأضرار لا بالمؤسسة والإدارة والهيئة والدائرة والقسم والشعبة والى بقية الوحدات وحسب، بل يتحول ذلك الشخص غير المناسب الى نكرة، بفعل ذلك الاختيار الذي وضعه في المكان غير المناسب له. وعندما يتعرف جيداً الى دوره هذا، سينشط بدوره لصناعة سلالات من النكرات، كي تتكامل حلقات الفشل والفساد العام والشامل، وهذا ما يحصل فعلاً في الكثير من مفاصل دولة ما بعد زوال النظام المباد.
ان صناعة النكرات هذه، ومع مرور الوقت ستتحول الى عائق شديد الفعالية أمام اية محاولة للإصلاح والتغيير، ومن الأهمية بمكان الإشارة الى ان مثل هذه المصائر لتلك المخلوقات (اي تحولها الى نكرات) ليست أمراً محتوماً أو من طبيعة هؤلاء اصلاً، فلكل إنسان مواهبه وإمكاناته، والحصافة والحكمة تكمن في وضعها بمكانها المناسب، وسوء الاختيار هو من يمسخها ويحولها الى ما أشرنا اليه من هوية ووظائف مدمرة. يمكن التعرف الى هذا الوباء وحجم انتشاره في اية مؤسسة او إدارة أو مشروع ما حكومي او قطاع خاص؛ من خلال نوع العلاقة السائدة بين الإدارة العليا والعاملين في ذلك المشروع، هل تعتمد الإدارة مبدأ الشفافية والمكاشفة واللقاءات المباشرة مع العاملين واعتماد ثقافة فريق العمل، أم السبل التي لم نحصد منها غير الفشل وانسداد الآفاق وبالتالي تفريخ المزيد من سلالات النكرات نظرياً وقيمياً وعملياً. الملاكات الناجحة والواثقة من قدراتها لا تخشى المصارحة والمكاشفة، لا بل هي تعدها مصدر أساس لنجاحها واكتشاف العيوب ومواقع الخلل والوهن في العمل، على العكس من تلك التي لا تطيق اي نشاط علني تنشط فيه روح النقد والشجاعة في مواجهة الأخطاء والعيوب، ومن سوء حظ مرحلتنا الانتقالية انها لم تواجه كل ذلك السيل الهائل من المفخخات والدواب الملغمة المنحدرة الينا من معاهد بحوث تورا بورا وشذاذ الآفاق من شتى البلدان وحسب، بل وجدت لدينا كل الشروط والمناخات والقرارات المناسبة لإجرامهم المنظم، وبنحو خاص ما تقوم به ستراتيجيات (تلغيم المكان المناسب) رأس كل فساد في الدولة والمجتمع والذي من دونه ما كان لقوى الإرهاب والإجرام كل هذه السطوة التي حولت مشاريع أحلامنا الى سلسلة طويلة من الكوابيس..
جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة