في بداية القرن المنصرم خرجت روسيا محطمة ومنهكة بعد أن وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها، عندها وضعت الحكومة الثورية الجديدة على رأس أولوياتها خطة لـ (كهربة روسيا) ولم يمر وقت طويل حتى وصلت الكهرباء الى أقاصي سيبيريا (علماً أن مساحة ذلك الوطن تعادل سدس الأراضي اليابسة لكوكبنا) حصل ذلك وسط حرب أهلية طاحنة وإمكانيات علمية وثروات محدودة قبل قرن من الزمان. أما في هذا الوطن المنكوب بقيم الفرهدة والشعوذة، فما زالت قضية الكهرباء تتمرغل في وحل الحسابات الضيقة لطبقة سياسية لا تجيد غير فن إعاقة بعضها للبعض الآخر. ها قد مر عقد ونصف على زوال النظام المباد، بددت فيها مئات المليارات من دون التمكن من حل هذا الملف (الكهرباء) الذي يعد العمود الفقري للتنمية الشاملة. ما يجري اليوم من اصطفافات ونزاعات حول ما عرف بمشروع (خدمة وجباية) لا سيما في محافظات الجنوب والفرات الأوسط، يعكس جانباً من “الحسابات الضيقة” لهذه الطبقة السياسية المسؤولة عن غير القليل من حالة التشرذم وانعدام المسؤولية الذي تعيشه قطاعات واسعة من العراقيين. لقد أشرنا في مقال سابق الى أن ما يجري في هذا المشروع لا علاقة له بمفردة (الخصخصة) والتي أثارت حفيظة ما تبقى من ديناصورات الآيديولوجيات الثوروية وسدنة كركدن القطاع العام والمنتفعين من فرهدة المال العام بوصفه “أموال مجهولة المالك”، بل هي محاولة اخرى لا تختلف عن العطابات التي سبقتها في إيجاد حلول للحد من هدر المال العام، عبر منح مهمة الجباية الى مستثمرين، وهو إقرار من قبل الدولة بعجزها عن أداء وظائفها.
كما أن التظاهرات والاعتداءات على المحولات الكهربائية والعاملين في هذا المشروع (خدمة وجباية) لا تعكس وعياً وموقفاً حضارياً، بل يتضمن كما الكثير من الظواهر الغرائبية لحقبة الفتح الديمقراطي المبين، الكثير من الديماغوجية والمصالح الفئوية الضيقة البعيدة عن الحكمة والشجاعة والوضوح في التعاطي مع مثل هذه الملفات الحيوية، وهي بالتاكيد لم تأت دفاعاً عن الفقراء والكادحين كما يدعون، لأن الانتصار لمثل هذه القضايا العادلة لها سبلها المعروفة والمجربة البعيدة كل البعد عن فزعات اللصوص ومافيات الإجرام والفساد. إن الخصخصة نفسها كخيار اقتصادي حمل الكثير من الحيوية والازدهار لدول ومجتمعات نعرفها جميعاً، ولم تتحول الى شر إلا في البلدان المسكونة بشرعة الفرهدة والمدونات التي تحتقر ورش الإنتاج والإبداع والتراكم الطبيعي للثروة والإنجاز، وفي بلد وضعته التقارير الدولية ضمن الدول العشرة الأكثر فساداً، ستجد مثل هذه المشاريع (الخصخصة) مصيراً لا تحسد عليه بكل تأكيد.
ما يجري من تعاطي مع ملف الكهرباء يكشف عن هشاشة مؤسسات الدولة وفقدان أغلبها للمصداقية ومنها وزارة الكهرباء وجيشها الجرار، العاجز عن أداء أبسط الواجبات الموكولة اليه من جانب، وعن الموقف اللامسؤولة من الثروات الوطنية والمال العام من قبل قطاعات واسعة من العراقيين من جانب آخر. يقول الناطق الرسمي لوزارة الكهرباء السيد مصعب المدرس: (إن التجاوزات على الكهرباء أدت الى ضياع 65 من المئة من الطاقة المنتجة..) أي تعرض ثلثي الطاقة المنتجة للسرقة، وهذا ما لم يحصل مع أي بلد آخر منذ توهج أول فانوس كهربائي على يد أديسون حتى يومنا هذا. لذلك سنبقى ننتظر طويلاً قطار الكهربة مع هذه القوافل التي أدمنت على الفرهدة وقضم المال العام..
جمال جصاني
الكهربة والفرهدة
التعليقات مغلقة