قبل أسبوعين شهدت عدد من المدن الإيرانية ومنها مركز إقليم خراسان مدينة (مشهد) ذات الأهمية الاقتصادية والدينية؛ انطلاق احتجاجات شعبية ذات طابع مطلبي سرعان ما ارتفعت فيها الشعارات السياسية المناهضة للنظام القائم ورموزه الأساسية السيد الخامنئي (المرشد) والشيخ روحاني رئيس الجمهورية. المتابعون لما يحصل في بلاد فارس القديمة انقسموا غالباً الى معسكرين، غلب عليهما الطابع الآيديولوجي أو التوجهات المسبقة، الفريق الأول (المعادي للنظام الإيراني الحالي) حول أمنياته بالسقوط السريع لذلك النظام الى قاب قوسين أو أدنى من التحول الى واقع، عبر وابل من الخطابات الإعلامية التي صورت ما يحصل بالهبّة الشعبية التي ستعصف بنظام “الملالي”. الفريق الثاني (الموالي للنظام محلياً وإقليمياً) قلل من أهمية مثل تلك الاحتجاجات، ناعتا إياها بما اعتاد عليه من وصفات واتهامات جاهزة؛ بوصفها من صنع “أعداء إيران” وبأنها من صنع محرضين أجانب وغير ذلك من اتهامات تعرّف عليها العراقيين مراراً في تاريخهم الحديث، حيث تكرر مشهد عرض مسرحيات اعتراف المعتقلين عبر وسائل الإعلام الحكومية بـ “عمالتهم” لدول أجنبية أو غرر بهم وغير ذلك من أساليب عفا عليها الزمن.
لقد اعترف الرئيس روحاني بالأسباب الواقعية التي دعت لمثل هذه الاحتجاجات في بداية انطلاقها، لكنه سرعان ما تعهد بمواجهتها لاحقاً، بعد أن أخذت مساراً آخراً بعيداً عن شعاراتها المطلبية والاقتصادية. وللتعرف عن أسباب مثل تلك الانعطافات الدراماتيكية في الاحتجاجات الايرانية، علينا التوقف قليلاً عند طبيعة النظام السياسية والعقائدية، والتي تستند الى ما يعرف بنظرية “ولاية الفقيه” التي لا تسمح لأي مواطن ايراني بالترشح للمسؤوليات التشريعية والتنفيذية في البلد، من دون التأكد من ولائه التام لهذا المبدأ، وهذا مدون في نص الدستور الايراني المعمول به حالياً. لذلك تجد الاحتجاجات نفسها غالباً في مواجهة مع هذه العقدة الأساس التي تتطفل على جميع تفصيلات حياة الدولة والمجتمع في هذا البلد المترع بطيف واسع من التنوع والثراء الحضاري والاقتصادي والمواهب البشرية والمعرفية. لقد أدرك أحد أهم الآباء المؤسسين لهذا النظام قبل موته المفاجئ بداية العام المنصرم الشيخ علي أكبر رفسنجاني؛ المأزق الفعلي لهذه التجربة الآيديولوجية التي أسهم في صنعها، وحاول جاهداً إبعادها عن المصير الذي ينتظرها، لكن الأقدار كانت قد رسمت لمن حاول اقتفاء أثر أمير كبير مصيراً مشابهاً لرائد تجربة الحداثة والإصلاح منتصف القرن التاسع عشر.
عندما تحتج أعداد كبيرة من الايرانيين ضد أوضاعها الاقتصادية والسياسية المتردية، وضد هدر الموازنات الوطنية في تمويل ما يعرف بـ “حركات المقاومة” في البلدان الأخرى، فهذا يدعو السلطات العليا في طهران للإصغاء جيداً لهذه المطالب المشروعة، لا استعراض عضلاتها وشبكاتها القمعية في مواجهة مثل تلك التحديات. صحيح أن استعمال القوة المفرطة قد يمد في عمر الأنظمة لكنه في نهاية المطاف، يلحق أبلغ الضرر بمصالح بلدانها وشعوبها الحيوية. لم يعد سراً أمر ارتباط الاستقرار والازدهار الاقتصادي بطبيعة النظام السياسية وتشريعاته التي تصون وتدعم التعددية والحريات والمدونات الأممية لحقوق الإنسان، هذا هو التحدي الذي لا يواجه التجربة الايرانية وحسب بل جميع التجارب الجارية على هذه المضارب المنكوبة بالعقائد والسرديات المسكونة بوهم الوصاية المطلقة على عيال الله..
جمال جصاني
ما الذي يجري في إيران؟
التعليقات مغلقة