كل هذا النحس المرافق لسكان هذا الوطن القديم، وما زالت الدراسات والتقارير المعنية بمعدل الذكاء بين الشعوب والأمم؛ تمنح العراقيين مواقع متقدمة في هذا المجال. وهي معطيات تتناغم وما عرف عنهم منذ القدم، لذلك لم يكن غريباً عندما أصبح العراق زمن المعتزلة (أهل العقل) مركزاً للمعرفة والعلوم وأفضل عقول ذلك العصر، وقد أشير الى ذلك في العديد من المدونات والمؤلفات الأجنبية منها والمحلية، وقد دوّن الجاحظ هذه الخصيصة بنحوٍ مكثف (أهل العراق أهل نظر وذوو فطن ثاقبة، ومع الفطنة والنظر يكون التنقيب والبحث..) يعني أن عقولهم في الغالب تتميز بالخاصتين المسؤولتين عن أعظم ما شهده تاريخ البشر من ثورات وتحولات علمية وقيمية؛ أي العقل النقدي والفضول المعرفي. إذن ما سر كل هذه الهزائم والإخفاقات المرافقة لهم؟
من يحرص حقاً في الوصول الى إجابات واقعية وموضوعية وجادة، تكشف له عن علل هذا السر (ذكاء فطري وقرارات حمقاء)، عليه أن يستعين قليلاً بما صاغته العقلانية من مناهج وأدوات معرفية حديثة. إن المفارقة التي عشناها بعد أن أزاح لنا المشرط الخارجي (ربيع العام 2003) الغدة التوليتارية المتخصصة بسحق كل ما يمت لعقل العراقيين وذكائهم وخياراتهم الحرة بصلة؛ عندما هرولت الحشود الى شرنقاتها التقليدية مستبدلة حنديري النظام المباد بحنديريات القبائل والطوائف وما يتجحفل معها من عقائد ضيقة وسرديات راكدة؛ تدعونا للكشف عن هذا اللجام ومنظومته وشبكاته الممتدة لتفصيلات حياتنا كأفراد وجماعات. ومن دون الاضطرار الى البحث والتنقيب في أعماق ماضينا، بمقدور عينات من تاريخنا الحديث أن ترفدنا بالكثير من المعطيات المهمة على هذا الطريق؛ عندما شق العراقيون طريقهم بقوة وحزم صوب الحداثة ومنظومتها المعرفية والقيمية في الأربعينيات والخمسينيات من القرن المنصرم، برهن العقل العراقي عن حيوية مدهشة، عندما نهض بقوة من وسط أنقاض قرون من العبودية والركود والاستبداد، ليضع بصمته في شتى حقول الإبداع والابتكار المادي والمعنوي، وفي وقت قصير جداً مقارنة وتجارب أخرى مشابهة. ذلك الجموح المشروع للعقل العراقي وتطلعه للانعتاق، اصطدم بمواجهة شرسة، لم تقتصر على سدنة اللجام من داخل الوطن وحسب، بل امتدت الى القوى والعقائد والمصالح المهيمنة في دول الجوار وما بعدها، حرب لم تهدأ إلا بعد أن تمكنوا من تنفيذ عمليات تنكيل واسعة ومنظمة ضد كل ما له صله بالعقل والحرية وكرامة الإنسان.
إن عدم استقرار العراق لا علاقة له بما هو رائج اليوم من صراعات على أساس “الهويات القاتلة” التي لا يمكن أن تشكل في أوسع حالاتها سوى جانباً من إفرازات هذا الخلل البنيوي؛ عندما يفرض على الذكاء الفطري اتخاذ قرارات خرقاء. هذا الإذلال الطويل والمبرمج لخصائص العقل العراقي، أوجد أوضاعاً مؤلمة وشديدة الغرابة، المشهد الراهن وآفاقه المسدودة يعكس شيئاً من تجلياتها؛ حيث تفتقر مشاريع (إن كان لديها مشاريع) جميع الكتل والقوى والشخصيات المتنفذة مثل هذه الهموم، التي تضع نصب عينيها مهمة إعادة الاعتبار لقدرات ومواهب العقل الذي دحرج على تضاريس هذه الأرض أول عجلة عرفتها سلالات بني آدم. وفي عالم تعد المعلومة أساساً لكل تطوره الحالي واللاحق، تصبح مهمة استرداد العراقيين الحرية والهيبة والكرامة لعقلهم وذكائهم الفطري رأس كل حكمة..
جمال جصاني
محنة العقل العراقي
التعليقات مغلقة