مشروع التعديلات على قانون الأحوال الشخصية 188 لعام 1959 الذي يستعد مجلس النوّاب الحالي لإقراره، وبرغم الاعتراضات التي تواجهه من قبل عدد من منظمات المجتمع المدني وقوى وشخصيات سياسية واجتماعية؛ إلا أنه يأتي منسجماً ونوع الاصطفافات والقوى والعقليات المهيمنة على المشهد الراهن. كما مثّل القانون الذي يراد “تعديله” أو بعبارة أدق؛ إفراغه من محتواه، تطلعات مجتمع نهاية الخمسينيات من القرن المنصرم، عندما تصدّر العراقيون قافلة الدول النامية للحاق بركب الأمم الحرة ومنظومة قيمها الحداثوية، تعكس المحاولات المستميتة لتعديله حالياً، واقع الانحطاط الذي انحدرنا إليه في العقود الخمسة الأخيرة، حيث الأولويات والاهتمامات لم تعد كما كانت عليه قبل اغتيال الجمهورية الأولى ومشروعها الوطني والحضاري. إن إصرار غالبية أعضاء البرلمان الحالي على إجراء تلك “التعديلات” يكشف عن طبيعة أولويات هذه الطبقة السياسية الحاكمة، التي تقف خلف الكثير من الهزائم والإحباطات التي شهدناها منذ لحظة زوال النظام المباد الى يومنا هذا. ومن الأهمية بمكان الإشارة الى أن مثل هذه المواقف من القانون المذكور، تعد امتداداً لما اتخذته قوى المحافظة والتقليد منه لحظة صدوره العام 1959، حيث مثّل مع حزمة القوانين والتشريعات الحضارية والتقدمية التي صدرت آنذاك مصدر قلق وإزعاج للمؤسسات والقوى التقليدية، والتي تلقف ممثليها الحاليين من شتى الرطانات والتسميات والعناوين مقاليد أمور ما يفترض أنها مرحلة للانتقال من النظام التوليتاري الى الديمقراطية والتعددية والحريات. مثل هذه النشاطات التشريعية التي لن تقتصر على مشروع “التعديلات” المذكور، تعكس حاجة المجتمع الحالي لها، وهي تتناغم تماماً والتدهور الشديد للوعي والذائقة الفردية والجمعية بعد عقود من الاغتراب والانقطاع عن تحديات وهموم عصرنا، وانعدام لكل أشكال الحرية والتعددية والنشاطات المستقلة والمواقف المسؤولة.
في مثل هذا الزمن الذي تظهر فيه داعش وفرماناتها في فقه السبايا وحق استعباد الآخر المختلف وامتهان كرامته وغير ذلك من تشريعات هجرتها سلالات بني آدم منذ قرون؛ يمكن لمثل هذه “التعديلات” المرور بوصفها امتداداً لبركات الصحوة الإسلاموية والحملات الإيمانية التي عصفت بمضاربنا في العقود الأخيرة، وسمحت لداعش والمتجحفلين معها بعقائد مماثلة بالتمدد ثانية على تضاريسنا المنحوسة. وهي “التعديلات” بالرغم مما أثارته من ردود أفعال دولية غاضبة، لما تضمنته من محتوى متنافر والقيم التي أقرتها البشرية في تشريعاتها ومدوناتها الحديثة؛ وجدت بالمخلوقات التي قذفتها صناديق الاقتراع الى سنام السلطات، كل الدعم والإسناد بوصفها انتصاراً لثوابت الأمة وطلاسمها المجربة. قد تبدو مثل هذه المواقف لأعلى سلطة تشريعية ورقابية في البلد (مجلس النوّاب) غير مهمة وعابرة للبعض، لكن مغزاها يؤكد ما أشرنا إليه مراراً وتكراراً؛ عن أس الضياع الأساس الذي يقف خلف متاهتنا المستمرة وآفاقنا المسدودة؛ أي الموقف الفكري ونوع العقائد والفلسفة التي يعتمدها من تنطع لمسؤوليات دولة ومؤسسات ما بعد زوال النظام المباد. غالبية هذه الكتل والجماعات والأفراد لا تخفي امتنانها لأصحاب الفضل عليها، بما تحقق لها من فتوحات وفرهدة شاملة للثروات والحقوق والآمال، وهي بهذا الإصرار على سن أو “تعديل” التشريعات تسدد بعضاً من تلك الأفضال، وهي لن تكف عن ذلك مع مثل هذه المناخات والاصطفافات المحلية اللهم إلا عبر هراوة دولية أخرى تنتشلنا من وصاية هذا الائتلاف الواسع للمتطفلين والمشعوذين واللصوص..
جمال جصاني
تعديلات من هذا الزمان
التعليقات مغلقة