ليس هناك أدنى شك من المكانة التي يحتلها (الحوار) بوصفه السبيل الأنجع لحل الاشتباكات والاختلافات بين البشر (أفراداً وجماعات) وهذا ما دونته تجارب الأمم في الماضي البعيد والقريب، ولأهميته المتعاظمة فقد تحول الى علم وفن، يستند اليوم الى كم هائل من التجارب والدروس والتقنيات النظرية والعملية. هذا السبيل يبرز اليوم بقوة كوسيلة وحيدة ومقبولة محلياً وإقليمياً ودولياً؛ لحل الخلاف والنزاع بين بغداد وأربيل. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا؛ هل تمتلك الأطراف المعنية الوعي المطلوب ومستلزمات هذا الحوار؟
من خلال تصفّح شيئاً من محطات تأريخنا الحديث في هذا المجال الحيوي (الحوار)؛ نجد أن الخيبة والفشل لم يفارقا غالبيتها العظمى، إذ الشراهة وضيق الأفق وانعدام الحكمة، كانت هي السائدة لدى الأطراف “المتحاورة” لذلك لم يتمخّض عنها سوى فصول أخرى من الانتهاكات بحق بعضنا البعض الآخر، وهي النتيجة المغايرة لما يرتجى من الحوارات الواقعية المتخصصة بترميم العلاقة بين الأطراف المختلفة وبما يخدم تطلعاتهم المشروعة بعدالة وإنصاف. نقف اليوم على أعتاب القرن الثاني لولادة العراق الحديث (1921) ولم يتمكن “حكماء وعلماء” هذا الوطن القديم من صياغة عقد اجتماعي وسياسي يضع حداً لوباء الاشتباكات العضال الذي لم يفارقنا حتى هذه اللحظة. لقد دعت الولايات المتحدة الأميركية عبر وزير خارجيتها السيد تيلرسون، بغداد وأربيل الى وقف الاشتباكات بين قوّات الطرفين، والعودة لطاولة المفاوضات والحوار وفقاً للدستور العراقي، منعاً لأي تدهور أو مفاجئات غير سارة، يمكن أن تلحق أبلغ الأضرار بأمن ووحدة البلاد، وبما حققه العراقيون جميعاً في الحرب ضد داعش والجماعات الإرهابية.
على الرغم من صعوبة منح الثقة لهذا النوع من المتحاورين (المجرب لا يجرب) وعجزهم عن انتشال مشحوفنا المشترك مما يحيط به من مخاطر وتحديات، لكنه كخيار أفضل بما لا يقاس من ترك مقاليد الأمور بيد فرسان العنتريات، من الذين ينتشلون في نهاية المطاف من الجحور. إن الحوار الغائب عن مضاربنا المنكوبة؛ هو حوار الأحرار والشجعان الذي يضع نصب عينيه المصالح الواقعية لشعوب هذا الوطن القديم، وبما يتفق وحاجات عالم اليوم ومدوناته الحضارية التي تنتصر لحقوق الإنسان وحرياته، لا الحوارات والمواقف المتصيدة في مياه التطورات العابرة العكر، والتي تؤسس غالباً للمزيد من الكوارث. لقد برهن سدنة العملية السياسية لعراق ما بعد “التغيير” عن إفلاسهم واغترابهم عن كل ما له صلة بالتأسيس للعراق الديمقراطي الجديد، لقد انحنوا لما فرضته عاصفة “التغيير” العابرة للمحيطات، وقاموسها المتخم بالعبارات والمفاهيم المارقة من نسيج (الديمقراطية والتعددية والحريات و…)، وقد شاهدنا جميعاً حقيقة تطلعاتهم وسرعة هرولاتهم لمغاراتهم الآيديولوجية،عندما يخف الضغط عليهم. مع مثل هذه الطبقة السياسية المجربة قبل “التغيير” وبعده، يصعب انتظار شيء مغاير عما نضح عنها طوال أكثر من عقدين في زمن (المعارضة) وأقل من عقدين في المنطقة الخضراء، ومن أجل تقليص حجم الأضرار المحتملة لسياساتهم وقراراتهم الطائشة والمتوقعة عند مفترق الطرق، نحتاج الى سد كل الذرائع التي يلوذون بها للفرار من الحوار، الى حيث العنتريات والأهازيج الخاوية. لقد كشفت تجربة حواراتهم السابقة لا عن عقم هذا السبيل (الحوار) بل عن دوره في الكشف عن عجزهم، والحاجة الى متحاورين أكفاء يمتلكون وعي الحوار ومستلزماته..
جمال جصاني
الحوار وعي ومستلزمات
التعليقات مغلقة