ما حصل مؤخراً في كركوك والمناطق التي سودنها الدستور بعبارته غير الموفقة (المتنازع عليها) من فرض لسلطة القانون، يعد خطوة نوعية على طريق إعادة بناء هيبة ما يفترض أنها دولة اتحادية وديمقراطية، وجدت كي تنهض بهذا الوطن المنكوب من بين أنقاض ما خلفته أبشع تجربة توليتارية عرفها تاريخ المنطقة الحديث. لا يتناطح كبشان على حقيقة ما ألحقته بنا سياسات القوى والكتل والجماعات التي تلقفت “الأمانة التاريخية” بعد استئصال النظام المباد ربيع العام 2003، عندما اعتمدت نظام المحاصصة على أساس “الهويات القاتلة” أساساً لنظامها السياسي، والذي تقاسمت على أساس “الغنيمة التاريخية” وأسلاب النظام السابق وفقاً لمعاييره المشؤومة، والذي انتهى بعد أكثر من عقد على “التغيير” بسقوط أكثر من ثلث الأراضي العراقية بيد أبشع العصابات الإجرامية والوحشية التي عرفها التاريخ (داعش). البعض وجد بتلك الانتكاسة والردة الحضارية، فرصة لرسم خرائط جيوسياسية جديدة لعراق ما بعد حزيران من العام 2014، منتهزاً حالة الانهيار والهشاشة التي ظهرت عليها قوات الدولة الفتية العسكرية والأمنية، ليفرض سطوته الفئوية كبديل عن مؤسسات الدولة. هذا النفوذ المتعاظم لقوى ما قبل الدولة، لا ينحصر في القوى التي فرضت نفسها على ما يطلق عليه (المناطق المتنازع عليها) بل انتشر الى جميع المدن والقصبات العراقية من الفاو لزاخو، حيث بسطت الجماعات المسلحة غير النظامية (العشائرية والشعبوية) سطوتها على غالبية تلك المناطق ولم تستثن العاصمة بغداد من ذلك النفوذ.
في الخطاب الأخير لرئيس مجلس الوزراء الدكتور حيدر العبادي بعد التطورات الأخيرة في كركوك، يمكن تلمس منحى آخر مغاير لما حصل بعد حزيران 2014، حيث يعكس الخطاب انحيازاً لمشروع الدولة بالمعنى الحديث لها، لا كما كان سابقاً؛ مشوشاً وتلفيقياً، وقد وضعت الانتصارات التي اجترحها العراقيون جميعاً ضد رأس رمح الإرهاب العالمي (داعش) بصمتها الواضحة على ذلك الخطاب الوطني والحضاري والمتوازن. ومن أجل مواصلة السير على هذا الطريق وتعزيز المصداقية في التعاطي مع ما يواجهنا من مخاطر وتحديات؛ على ممثلي سلطة الدولة والقانون تجنب الوقوع بمطب الكيل بمكيالين في التعاطي مع مثل هذه التحديات لهيبتها، لأن ذلك سيعصف بكل ما حققته من مكتسبات وثقة.
إن مهمة فرض سلطة القانون لا يمكن أن تتجزأ، وهي منظومة متراصة ومتكاملة من الخطوات والحلقات غير المنفصلة عن بعضها البعض، وهي بالتأكيد لن تنتصر لفئة أو “مكون” ما على حساب الآخرين، كما أنها لا يمكن أن تعتمد غير فلسفة الدولة الحديثة ومدوناتها ومؤسساتها، هذا الشرط الذي سيحتاج الى المزيد من القرارات الشجاعة والمسؤولة من قبل السلطات العليا في الدولة الاتحادية، والتي ستتطلب بدورها وجود ملاكات مؤمنة وواعية لمثل هذه التوجهات، كي تتحول الإمكانية الى واقع، يعيد للدولة مصداقيتها وهيبتها التي انتهكت طويلاً من سلالات اللصوص. مثل هذه التحولات والتطلعات المشروعة ستواجه بحملات مضادة واسعة وشرسة، لا سيما وأن قوى وكتل التشرذم الوطني ما زالت تقبض على المفاصل الحيوية للدولة والمجتمع، ولن تتخلى بسهولة عما قضمته من مواقع وامتيازات في شتى مجالات الحياة المادية والمعنوية، لكن قدرنا جميعاً سيكون في نهاية المطاف مع مشروع الدولة الحديث وبرامج التنمية لا مع اللصوص والقتلة والمشعوذين…
جمال جصاني
سلطة القانون لا تتجزأ
التعليقات مغلقة