مام جلال وأيام المسارات العنيدة

كتب اسماعيل زاير:
خسرنا في اليومين الماضيين زعيمين كبيرين نذرا نفسيهما للعراق الجديد هما الرئيس مام جلال والدكتور مهدي الحافظ. في هذا البلد العريق يندر أن تشاء الأقدار أن نجمع قائدين من معدنهما وقلما تعارضت آراؤهما وأحلامهما على امتداد العقود الماضية وكانا جزءا لامعا من جسد العراق المضيء وسفيرين للتقدم والديمقراطية والتسامح.
“الصباح الجديد” كانت على الدوام في اتصال مع أفكار “مهدي الحافظ” وقبل أن يغيب مام جلال عن المشهد السياسي كتبنا عن شخصيته في نشراتنا السابقة ونستعيد اليوم مع الحدث المرير هذه الكلمات وفاءً للرئيس الراحل.
عندما قابلته أول مرة في صيف عام 1978 كان يبحث في شخصي عن علامات معرفة مشتركة في الفكر أو في الناس وكنت التحقت اليه للتو .. قال : من أنت ..؟ قلت له وانا أعرف أن شقيقي الراحل ابراهيم عمل معه مصمماً في صحيفته النور أثناء صدورها في بغداد : انا شقيق ابراهيم زاير .. ضحك بمرح وصخب طفوليين وقال: إنه رفيقي في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين يرحمه الله إنه شهيد كبير .. ومَنْ هم أصدقاؤك ؟ ، قالها بسرعة مباغتة .. وتذكرت اثنين منهم ، الأقرب الى نفسي انزلق على لساني دون تفكير فذكرته : حسين عارف .. قلت . فرد بسرعة صاروخية : يا للجحيم .. انه تروتسكي .!. قلت متفاجئاً بخيبته وخيبتي الأولى معه : ولكني أنا أيضا تروتسكي .. مضى في استنطاقه لي وكـأنه لم يسمعني : ومن غيره؟ أطلقت آخر رصاصاتي المقنعة : عباس البدري .. فتجهم وتذمر وتأفف ونطق أخيراً : خلي يولي .. كسلان .. !
انتهت بهذا أول جلسات الاشتباك مع القائد جلال الطالباني وكان ذلك في أواخر تموز عام 1978.. التحقت بفريق مقاتلي عصبة الماركسية اللينينية في منطقة قره داغ . بمحض الصدفة وبضربة حظ بعدما تخلى عني الشخص الذي تعهد بإيصالي الى الجبل والى البيشمركة بعد صدور اخر أوامر القبض علي من المخابرات العراقية وبما إنني تعبت من ضيافتهم السقيمة فقد انتهت مقدرة امتلائي .. لقد تخلى عني ذلك الشخص .. ولكن حظي قادني الى مناضل شجاع كردي لم أكن أعرفه بل راقب وجودي وخيبتي وأشفق علي من القبض والإعدام .. ( سأتحدث عنه في مكان آخر ) ، أوصلني الى الجبل وامتزجت مع المقاتلين بسرعة صاروخية كما يمتزج السكر في قدح الشاي الساخن . أعطوني اسم شاهين وبدلة بيشمركة من دون سلاح . بعد أسابيع وجولات عديدة في دشت قره داغ وعمر اغا وسوسناوة وتكية . طلب القائد مام جلال منهم أن يسفروني اليه في زيوه ونوزنك قرب جبل قنديل الشهير . وهكذا فعلت بعد 12 يوماً من السير عبر ألغام وحقول مظلمة ومبيت على فراش من الحجارة والتراب .
عدّ جميع أصدقائي في مقر القيادة في نوزنك أن لقائي الأول بالمام جلال كان ناجحاً ، ولا سيما وانني عشت ضيفاً عليه في خيمته ثلاثة أسابيع .. كان المام يبدأ فجره بمحطة بي بي سي وهو ما يزال في الفراش فتقع الحان وصفارات الراديو العجائبية على أذني كالعسل .. وأسمع شتائمه لذوي الذوق التافه أو « الذوق سزية» كل يوم .. الناجي الوحيد من تلك الشتيمة الوحيدة التي سمعتها من لسانه كان ذلك الذي يضع فيروز في مذياعه ..
كنت أدرك أنه في خضم ذلك الزمن المحتدم ليس لدى مام جلال شيء مبهج او خبر طيب لذا فلحن طيب صباحاً أمر مرحب به . فالنظام الدكتاتوري كان يحلق في سماء الجبروت القاهر لخصومه بقوة أجنحة الولايات المتحدة من جهة والاتحاد السوفياتي من جهة أخرى ، وفي المحيط والجوار كانت قيادتا جيش المقبورين : صدام والشاهنشاه ، تنسق ليل نهار على مرآنا ومسمعنا أحياناً ، لخنق البيشمركة وحرمانهم من نسغ الحياة ..
كان هذا السياسي والمثقف قريباً الى جهامة كاهن مسيحي ساقته الأقدار الى برية ضائعة .. وبفضل مسبحة طويلة تتدلى من يديه نجح المام بالكاد في تمضية أكثر الأوقات مللاً ومبعثاً للضجر .. في عزلته الحميمة تلك يغذي مخيلة أكثر المتشائمين بالأمل والحلم .. كان ماكينة للحيوية والعاطفة والصرامة واليقظة . بوسعه أن يتحول من خطيب تقطع كلماته الخصوم كما السكين الى راوية للأحاديث المرحة والذكريات النادرة .. وكان بوسعه ان يحول قتامة وشؤم احد الأيام الى مرح واحتفال باختلاق مآدب غذاء مستعجلة . ومع ذلك كان بوسعه أن يستقبل الرسل المتوجهين اليه من أصقاع وأقاصي كردستان ويستمع إليهم ويوزع عليهم أوامر ونصائح عسكرية وتنظيمية وشخصية .
في تلك البقعة السديمية المظهر كان وجوده أكثر من رمز على ماذا يمكن ان تنتهي اليه مغامرة العقل البشري .. وتوقه للكرامة والكبرياء .. كان يقول: اسم وطنه كردستان وهو يدق قدمه بالأرض .. فتهتز التربة تحتنا عند كل اضطراب فيه ..
كان يجتمع مع أركانه وهو واقف ويناقشهم وهم يمشون إلى جنبه .. ومع كل واحد منهم كان له خطاب خاص ولغة خاصة . تتناسب هذه المقدرة النادرة للقائد مع المطالب التقنية لدور كل منهم ومع المزاج الشخصي والتأريخي لكل واحد منهم .. كان في أحاديثه مع قيادات الاتحاد الوطني مثل نهر هادر يصحح مجرى الماء ويفتح دروباً بديلة .
اليوم وبعد مرور حوالي ربع قرن على تلك الأيام يمسك المام بيدي كل مرة يراني فيها ويميزني عن رفقتي في اللقاء ويهتف بالسامعين بمزاياي الى درجة انه يخجلني فيها ويحرجني .. ويجدد الحاحه علي أن لا أبقى بعيدا عنه وأن أطلب منه ما أشاء .. ولكني ربما لا يعلم أن ما أراه وأسمعه منه من تقدير ووفاء هي أكثر ما أشاء وأرغب وأكثر ما يرغب المناضل في تلك الأيام…

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة