عندما تستمع للكثيرين وهم يرددون عبارة (الاستفتاء حق طبيعي…) تجدهم وكأنهم قد أكتشفوا أمراً لم يتعرف عليه الآخرون من قبل، وهم بذلك يوهمون أنفسهم بأنهم بذلك الاكتشاف العبقري قد لجموا “خصومهم” مرة واحدة والى الأبد. لا أحد منهم يلتفت الى أن لمثل هذه (الحقوق) شروط ومستلزمات عديدة ومتعددة كي تتحول من أمنية وإمكانية الى واقع. ولو كان بمقدور مثل هذه السبل (الاستفتاء) أن توصلنا لما نتمنى من آمال وأمنيات، لما انقطعنا عنها لحظة واحدة، ولأصبحت ملاذنا الأوحد من جور الزمان والأقدار. لكن ناموس الحياة لا يسير وفقاً لمشيئة الصيغ والشعارات الجميلة. وهذا ما لم نجده على قائمة اهتمامات فرسان الاستفتاء الأخير الذي جرى في إقليم كردستان و”المناطق المتنازع” عليها في الخامس والعشرين من الشهر الجاري. لا أحد ينكر فائدة العناد أحيانا زمن الحروب والنزاعات من أجل الوجود والبقاء وهذا ما أشار اليه كوران عندما قال (كوردي وصخرة وبندقية وكيس تبغ وليتقدم العالم كله)، لكنه يلحق أشد الضرر بالقضايا المصيرية في المحطات التي تتطلب الحكمة والمرونة، التي تقتضي إحاطة القضية العادلة بكل متطلبات وشروط النجاح، ولا سيما في مجال كسب الحلفاء والأصدقاء الموثوقين والفاعلين، لا خلق المزيد من الأعداء لها، كما حصل مع موضوع الاستفتاء الأخير، والذي أطلقته سلطة أربيل ضمن أسوأ الشروط الممكنة، إذ العزلة شبه المطلقة لهذه السياسة محليا وإقليميا ودولياً.
لقد أشار بيان رئيس الجمهورية الأخير السيد فؤاد معصوم الى الخلل الأساس لذلك القرار البعيد عن المسؤولية والحكمة؛ عندما وصفه بـ (أحادي الجانب) والذي يعني أنه غير متوازن، وهو بذلك يمكن أن يلحق أبلغ الضرر بمصالح سكان الإقليم الحيوية بنحوٍ خاص والعراق بنحوٍ عام. مثل هذه القرارات غير المتوازنة والطافحة بخطابات الكراهة والثارات الصدئة، تشرع الأبواب أمام مشعلي الحروب والجماعات المتعصبة والمتهورة كي تتلقف زمام الأمور في بغداد وأربيل وبقية المدن العراقية. وهذا آخر ما نحتاجه في الظرف المعقد والعصيب الذي نعيشه جميعاً بعد المشوار المرير من التضحيات والأهوال في الحرب ضد داعش ودسائس فلول النظام المباد لاسترداد الفردوس المفقود. إن ضحالة الوعي وضيق الأفق وحدهما يقفا خلف مثل هذا التصعيد والتحريض ضد بعضنا البعض الآخر على أساس الرطانة والهلوسات والأزياء، ومن المؤسف ان هذه البضائع الملوثة ما زالت هي الأكثر تداولاً ورواجاً في بورصة مزاودات هذه الطبقة السياسية الفاشلة والفاسدة، والتي تعاطت مع مهمات ما يعرف بـ (المرحلة الانتقالية) بوصفها غنائم وأسلاب تقتضي الفرهدة والتقسيم.
إن منهج استغلال الظرف العصيب الذي يمر به العراق، ومحاولة فرض الأمر الواقع على بقية الأطراف، لن يفضي لغير الاستعداد لاستقبال المزيد والجديد من الكوارث التي لن تستثني أحداً. وهذا الأمر لا ينحصر في الموقف الأخير الذي اندفعت إليه أربيل، بل يشمل أيضاً شركاءهم في “الرسائل الخالدة” الذين يتربصون مثل هذه الفرص ومناخات وبؤر التوتر، كي يفرضوا واقعاً آخر، يبعدنا أكثر عن الحلول المتوازنة لمثل هذه الملفات بالغة التعقيد. علينا الاعتراف بحقيقة هيمنة قوى التطرف القومي والطائفي والعقائدي الضيق؛ على المفاصل الحيوية لما تبقى من أسلاب الدولة والمجتمع بعد “التغيير”، وما يحصل حالياً هو نتاج طبيعي لتلك الهيمنة، التي أوصلتنا الى كل هذا الفشل السياسي الذي توجته أربيل باستفتائها الأخير..
جمال جصاني
ليس بالاستفتاء وحده
التعليقات مغلقة