محنتنا لم تكف عن التجدد، وغالباً ما نجد أنفسنا نجر خطانا الى المربع الأول أو ما قبله، وكما قيل قديماً في وصف الأوضاع المستعصية والميئوس منها بعبارة (نحن قوم في مصيبة)، إذ لا حل ولا شراع نجاة يلوح في الأفق. الصعوبات والتحديات المصيرية وما يرافقها من فواتير مؤلمة وقاسية، عاشتها أمم ومجتمعات عديدة، غير أن غالبيتها قد حولت كل ذلك الى عبر ومعابر صوب حياة أكثر أمنا ورقيا وازدهاراً، إلا شعوب مضاربنا المنكوبة بعقائد وسرديات محصنة ضد كل ما يتعرض لركودها وثوابتها الجليلة. عندما نتمعن قليلاً بحادثة الدهس الإرهابي التي وقعت مؤخراً في إسبانيا على سبيل المثال لا الحصر، سوف نتعرف على جانب من الموروثات التي تقف خلف هذه الممارسات الهمجية التي هجرتها البشرية منذ زمن بعيد. الكثير من وسائل الإعلام حمّلت ما يعرف بـ (الذئاب المنفردة) مسؤولية حصول مثل تلك الانتهاكات والجرائم البشعة تجاه الأبرياء من الذين قذفهم حظهم العاثر الى مكان وزمان ذلك الحدث المأساوي، لكن عندما تصغي جيداً للأسباب التي دفعت هؤلاء للقيام بمثل تلك الأعمال البشعة؛ ستجدهم يجمعون على أن ضحاياهم يستحقون ذلك المصير لأنهم من الكفار، وبما أنهم يجدون أنفسهم من المنتسبين لنادي الأقوى والأشد إيماناً ومرتبة بين أقرانهم، فلا مناص من سلوك هذا الدرب تقرباً الى الله، وفقاً لخارطة الطريق المتفق عليها استناداً للسرديات القاتلة والتي ما زالت معتمدة لدى غالبية الفرق الإسلامية.
لقد احتاجت المجتمعات الغربية الى سلسلة من الثورات العلمية والقيمية، كي يعيدوا الاعتبار للعقلانية في التعاطي مع ما يحيط بهم من هموم وتحديات، حصيلة تلك العودة الظافرة لأهم خصيصة لسلالات بني آدم (العقل) هو ما نشاهده اليوم من نمط حياة وقدرات هائلة لإنتاج الخيرات المادية والمعنوية، والتي وسمت عالم اليوم بكل ماهو بهي وجميل وحضاري. أما ما يحدث في مضارب “خير أمة” والتي حاولت ذات عصر “تكريم ورفع شأن بني آدم” وفقاً للإمكانات المحدودة آنذاك؛ فإنها وبهمة النهضة الإسلاموية المزعومة والتي أعادت الروح لمومياءات العصور الغابرة، ارتدت وبسرعة ضوئية الى كهوف التخلف والظلام، بعد أن سلمت مقاليد أمورها الى قوافل “المعطوب والمجذوب” وبوسع أكثر الوسائل بدائية في الكشف، إن تعرفنا على الإمكانيات العقلية والوجدانية الفعلية لغير القليل ممن استلقوا على سنام المسؤوليات المفصلية لهذه الجماعات بأزيائها وهلوساتها المختلفة. إن هذا الانتشار الواسع والعميق لكل ما له علاقة بالخرافة واللاعقلانية والأضاليل في مجتمعاتنا لم يأت من فراغ، بل هو منسجم تماماً مع بنية تحتية غاية في التخلف والعجز ومنظومة قيم لا تقل انحطاطاً عن تلك البنى والهياكل الهرمة.
ما حدث في إسبانيا من أعمال همجية لا تعدو أن تكون مجرد رذاذ عما يحدث لدينا من نهش لأوصال بعضنا البعض الآخر استناداً لمدونات الدمار الشامل التي ترضعها الأجيال جيلا بعد جيل، حيث تتاح أعظم الفرص أمام سلالات “المعطوب والمجذوب” لاستلام زمام الأمور ومقاليد الزعامة في عصر غيبوبة العقل الكبرى التي نعيشها، مع هذه المناخات الطاردة لكل ما له صلة للموهبة والكفاءة والعقل، تشرع الأبواب لأمثال الشيخ أحمد الوائلي وعياداته الطبية التي تعالج عيال الله بالتعاويذ والكفخات والجلاليق…!
جمال جصاني
بين معطوب ومجذوب
التعليقات مغلقة