عطابة “سانت ليغو” المعدل

وأنا اتابع هذا الاهتمام الواسع لما أقرّه مجلس النوّاب مؤخراً حول الصيغة المعدلة لنظام “سانت ليغو” وما رافق ذلك من غضب واستياء لدى من يعدّون أنفسهم ضمن نادي الكتل والجماعات الصغيرة، المتحمسة للاشتراك في الجولة الجديدة للانتخابات؛ تذكرت صرخة مظفر النواب التحذيرية لأهله، من مخاطر الردة واعتماد الوسائل المجهضة وغير المجدية في مواجهة الكارثة المحدقة، عندما قال: (جرح صويحب بعطابة ما يلتم)؛ مثل هذه الفزعات تعيد اجترار نفس العطابات البائسة في مواجهة عيوب بنيوية لا علاقة لمثل هذه التقنيات والوسائل والأنظمة المتطورة لتوزيع المقاعد الانتخابية بها. إن الاستعانة بأنظمة متطورة وجدت لأوضاع سياسية واجتماعية وديموغرافية خاصة، كما حصل مع الصيغة المعدلة من نظام “سانت ليغو” في نيوزلندا والنروج والسويد والبوسنة، لا يعني أنها ستكون بمثابة الوصفة السحرية لكل عيوب ومشكلات صناديق الاقتراع، وفي بلد مثل العراق انتشله المشرط الخارجي من نفق أقسى تجربة توليتارية عرفها تاريخ المنطقة الحديث، وما خلفته من سحق شبه تام لكل ما يمت بصلة للتنوع والتعددية السياسية والاجتماعية والنقابية، مهّد الطريق لكل هذا الضياع والتشرذم السياسي والقيمي الذي نمر به اليوم. كما أن تجربة اعتماد نظام “سانت ليغو” المعدل والتي اعتمدها مجلس النوّاب العراقي نهاية العام 2013 لم تفضي لأي تغيير جدي في خارطة المقاعد للانتخابات السابقة والتي أهدتنا البرلمان الحالي، والذي يلفظ أشهره الأخيرة.
كل هذه الحقائق والمعطيات تدفعنا للحذر من مثل هذه الفزعات المسكونة بتقاليد وثوابت (الهرب للأمام)، وبالتالي الإصرار لدفعنا الى المزيد من الهزائم السياسية والحضارية. مشكلتنا ليست بـ (سانت ليغو المعدل منه أو غير المعدل) مشكلتنا بعدم امتلاكنا للتشريعات والتوجهات المناسبة والشجاعة، التي بمقدورها كنس فضلات أربعة عقود من الهيمنة المطلقة لسلطة العبودية والاستبداد. في النصف الأول من القرن المنصرم رفع رواد الوطنية العراقية شعار (لا انتخابات بلا أحزاب سياسية) وكان ذلك وعياً عميقاً ومبكراً، لما نفتقده اليوم حيث تسمح “المفوضية المستقلة للانتخابات” لتأسيس مئات “الأحزاب” للمشاركة في الجولة المقبلة للانتخابات…! مئات من التسميات والعناوين تشبه كل شيء إلا الحزب بمعناه ووظائفه المعروفة لدى الدول والمجتمعات التي وصلت لسن التكليف الحضاري. هنا يكمن الجرح الذي لن تلمه كل هذه العطابات الوافدة.
ما يجري خلف وابل كثيف من ادعاءات المدنية والإصلاح و”الأحزاب العابرة” وغير ذلك من العناوين الرنانة، والأكثر رواجاً في بازار المزاودات والاستعراضات الحالية؛ هو شكل من أشكال التواطؤ مع قواعد اللعبة الأساسية التي تعرفنا لبضائعها على مدى أربعة عشر عاماً من “التغيير”. وقد برهنت تجربة حصول ما يسمى بـ (التيار المدني والديمقراطي) على ثلاثة مقاعد في البرلمان الحالي، لا على بؤس مثل ذلك الوجود وحسب بل قدم خدمة مجانية للكتل الكبيرة وحيتانها كي ترسّخ روح اليأس وعدم الثقة بمثل هذه البدائل والخيارات. إن وضع اللوم كله على مثل هذه الأنظمة التي اعتمدها البرلمان، بوصفها (تقطع الطريق أمام القوى الرافضة للفساد، وتبقي البرلمان تحت سيطرة الكتل الكبيرة و…) هو في نهاية المطاف ترويج لـ (الوعي الزائف) والذي هو أشد فتكاً من الجهل نفسه. إن إصرار البعض لتقديم نفسه كبديل كامل وجاهز بمقدوره أن يحل محل الطبقة السياسية الحالية خلف يافطات (الحراك المدني والعصيان المدني..)، سينطبق عليه المثل المعروف “جمّل الغركان غطة”.
جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة