قوانة المؤامرة

تجدها تتمدد على كل المستويات الاجتماعية، وتبسط هيبتها على غالبية سكان هذا الوطن المنكوب (أفراداً وجماعات) حيث لا يختلف في الاعتصام بحبل إجاباتها القاطعة العامل البسيط وأستاذ الجامعة والمنتسبون لنادي المحللين الاستراتيجين ومراكز بحوثهم “الفضائية”؛ جميعهم يرددون بثقة ممزوجة ببقايا غطرسة قديمة في مواجهة المخاطر والتحديات المتعاظمة أمامنا، على أنها جزء أو حلقة من المؤامرة الأزلية التي يحيكها الآخر المختلف، بالضد من “خير أمة” من دون الناس جميعاً. لم نقرأ عن بقية الأمم والشعوب، أنها عرفت أو اعتصمت بمثل هذه “القوانة” لمواجهة حاجات وتحديات عصرها، اليابانيون على سبيل المثال لا الحصر، وهم من تعرضوا للقصف بأسلحة الدمار الشامل، في هيروشيما وناكازاكي والتي راح وسط عصفها الرهيب مئات الآلاف من الضحايا، وغير ذلك من تبعات الاستسلام من دون قيد أو شرط، لم نسمع أو نقرأ في مدوناتهم وبحوثهم أنهم قد وصلوا الى اكتشافاتنا العبقرية في فك طلاسم (المؤامرة العالمية) ودسائس الشيطان وعفاريته في هذا المجال.
هذه الشعبية لنظرية المؤامرة في مضاربنا المنحوسة، لم تأت عبثاً بل هي تستند الى إرث طويل من السبات والاغتراب عن العالم المحيط بنا، وقد تكون ملاذا طبيعيا لمجتمعات استفاقت فجأة لتجد نفسها وسط عالم آخر لا حدود لاندفاعاته وتصدعاته وثوراته العلمية والقيمية المختلفة تماماً وما بحوزتها من أسمال سرديات وعطابات انتهت صلاحيتها منذ أكثر من ألف عام وعام. ليس غريباً أن نجد غالبية مطبوعاتنا ومنابرنا وفضائياتنا وحفريات “علماؤنا الجدد” تلقي بجريرة ظهور وصناعة داعش على عاتق بعبع “المؤامرة” ودسائس الشيطان بأحجامه المختلفة. مثل هذه الإجابات تليق بمن تكلست مفاصله وأجهزته الحيوية، فهي مناسبة تماماً لكل هذا الترهل العقلي والوجداني المهيمن على المشهد الراهن. غير ذلك سيكون مؤلماً وعسيراً على من تحجرت قدراته العقلية أو مسخت طوال قرون من الخنوع وعدم الاستعمال.
نتاج كل ذلك يمكن مشاهدته في الحضيض الذي انحدرنا اليه، حيث سلمنا مصائرنا وبملء إرادتنا الى طبقة من المشعوذين والدجالين والأميين والقتلة واللصوص، يقودوننا من محرقة الى كارثة الى نسخ أشد فتكاً، من دون أن يرف لنا جفن من سكراب عقل أو ضمير. وعندما يرتفع منسوب التذمر والشكوى لدى حطب تلك المحارق؛ تسارع سلالات “أولي الأمر” وجحافل الحبربش المحيطة بهم لتفعيل بعبع “المؤامرة” وأعداء الأمة التأريخيين. لا يخفى على المتابع الفطن أن الرواج المتعاظم لهذه القوانة البائسة، قد ترافق وحقبة الرزق الريعي (النفط والغاز) وما نضح عن الاقتصاد الريعي (الطفيلي) من قيم وممارسات وعادات وسلوك، تنسجم وأسلوب تراكم الثروة وطرق ومعايير توزيعها، والتي تشكل الأساس الذي تستند اليه مثل هذه المنظومات القاتلة. إن اعتماد “نظرية المؤامرة” ونفوذها الكاسح وسط هذا النوع من المجتمعات، يجعل أمر التحرر منها مهمة شبه مستحيلة، لما تقدمه من خدمات لعقول هجرت النشاط والإبداع منذ قرون. لذلك لا مناص من اعتمادها (قوانة المؤامرة) لكن بصيغة وشحنات وخارطة طريق جديدة؛ أي أن نقر ما استقر في العقل الجمعي من وجود مؤامرة مزمنة لا تكل عن إجهاض تطلعاتهم المشروعة، لكنها موجودة معنا في الشروط والمناخات والقناعات التي حولتنا الى مخلوقات ومجتمعات عاجزة (لا تحل ولا تربط) لا في الأشباح والشياطين التي تطاردنا من دون الناس..
جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة