مأسسة التشرذم

غالبية القوى والكتل والزعامات التي ظهرت وانتفخت بعد “التغيير” لا تضع الهوية الوطنية العراقية في سلم أولوياتها، على الصعيد العملي ولا على مستوى الدعاية والشعارات والحاجات العابرة، إذ نجد أسماءها وعناوينها لا تفارق المفردات والعبارات الوطنية (تحالف وطني، ائتلاف وطني، العراقية ….) لكنها جميعاً بسياساتها وممارساتها وسلوكها وخطاباتها تكرس التشرذم بأبشع أشكاله، وهذا ما نضح عنها طوال أكثر من 14 عاماً على تصديها لمسؤولية ما يعرف بمرحلة العدالة الانتقالية، والتي تحتاجها البلدان المنكوبة بالنظم التوليتارية بعد نجاتها منها، وهي مرحلة تعتمد أساساً على إعادة ترميم النسيج الاجتماعي والوطني للبلد، لا نثر بيوض التشرذم والتفرقة على أسس إثنية وطائفية ومعايير فئوية ضيقة، كما حصل مع تجربتنا المنحوسة. هذه الطبقة السياسية المهيمنة على مقاليد امور ما بعد زوال النظام المباد، وطبقاً لقواعد اللعبة التي اجتمعوا عليها، لا يمكن أن تفضي لغير التشرذم والمزيد منه، مع ما يرافقه من بؤر متزايدة ومتعاظمة للتوتر والنزاعات، لا سيما بعد ترسخ المؤسسات المعنية برعاية كل أشكال التشرذم والانحطاط المادي والقيمي.
لقد كان خطاب السيد حيدر العبادي مترعاً بالمرارة والغضب، عندما تطرق الى رأس رمح هذا التشرذم؛ أي الفصائل المسلحة من شتى الهويات (عشائرية، طائفية، عقائدية، إجرامية..) ومحاولاتها لفرض إرادتها على مؤسسات الدولة والمجتمع، إذ تزايدت عمليات الخطف والتهديد والابتزاز، وحوادث الاعتداء على الأجهزة الأمنية، والاصطدامات المستمرة بين العشائر المسلحة في غير القليل من المدن العراقية ولا سيما عاصمة العراق الاقتصادية (البصرة). لقد حذّرنا مراراً من مثل هذه المخاطر لمنهج عسكرة الدولة والمجتمع والذي عاد بقوة مع هذه الطبقة السياسية وضيق أفقها المميت، ومن البناء العشوائي وغير المسؤول لمؤسسات الدولة الجديدة ولا سيما الأجهزة العسكرية والأمنية، والتي تحولت بفعل المعايير غير السوية (عندك عرف) المتبعة في بنائها واختيار ملاكاتها، الى أحد أكبر ملاذات العجز والفساد في المشهد الراهن. ليس هناك أدنى شك من أن مهمة التغيير والإصلاح أصبحت أكثر عسراً وتعقيداً مما كانت عليه عشية “التغيير”. وهذا يعود الى ما خلفته سياسة تلك القوى في مأسسة التشرذم، وتحويله الى ابن شرعي للعراق الجديد..!
في دعوتنا هذه لمواجهة التشرذم والقوى والمصالح والخطابات التي تقف خلفه، لا ندعو للوطنية والهوية العراقية من منطلق آيديولوجي أو عقائدي أو تبجيلي وغير ذلك من ترسانات التغني والأهازيج الخاوية، بل من منطلق كونها خشبة خلاص مجربة لما يحيط بنا من مخاطر ومسارب مهلكة. وهذا ما عكسته تجربة الأربعينيات والخمسينيات من القرن المنصرم، عندما تصدر المشروع الوطني قائمة اهتماماتنا كأفراد وجماعات سياسية واجتماعية منظمة، حيث النشاط والحيوية التي رافقت ذلك في شتى حقول المعرفة والخلق والإبداع. وعلى العكس من ذلك ما حصدناه مع الكتل والقوافل المتنافرة وذلك المشروع الواقعي، حيث الانحطاط والحروب والنزاعات وما يرافقها من تدهور في كل مجالات الحياة. لا مناص من هذا السبيل المجرب، بعد أن تذوقنا مرارة الهرولة خلف مشاريع “الهويات القاتلة” إثنية كانت أم طائفية وفئوية، وعجزها الفاضح في تقديم بديل واقعي وحضاري لسكان أقدم الأوطان. صحيح أنها مهمة معقدة وصعبة (إعادة تأسيس الهوية العراقية ومشروعها الوطني) وسط هذا الطفح الهائل للتشرذم ومؤسساته؛ غير أن البدايات الجادة بمقدورها تذليل المعوقات وشق الطريق بعيداً عن المأزق الراهن..
جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة