درجات علمية أم وظيفية

عندما نتصفح شيئا من تأريخ المجتمعات والدول الحديثة، ونحاول أن نتعرف على علل وأسباب تطورها وازدهارها، نجد أن أكاديمياتها ومراكز بحوثها تقف خلف الكثير من تلك الفتوحات العلمية والقيمية والاجتماعية والسياسية، عبر اعتمادها لمعايير صارمة لا تخضع لمشيئة وذائقة القوى والجماعات والمصالح العابرة. تلك المعايير ومنظومة القيم تحولت بفعل الجهود الإبداعية المتواصلة والمثابرة وروح الإيثار؛ الى تقاليد راسخة تتوارثها الأجيال جيلاً بعد جيل، لذلك نجد أغلبها قد حافظ على تصدره لقائمة الجامعات الأكثر نجاحاً وإنجازاً في عالم اليوم. عندما اعتقلت قطعان الحرس القومي في شباط من العام 1963 رئيس جامعة بغداد (الدكتور عبدالجبار عبدالله) وألقته في معتقل قصر النهاية سيئ الصيت، بدأ العد التنازلي في هذا الحقل الحيوي، ليصل اليوم بهمة “العداؤون الجدد” الى تصدر قائمة الجامعات الأكثر فشلاً. لذلك لا ينبغي علينا إبداء التعجب أو الاستغراب من قسمتنا العاثرة وعجزنا المستمر في التصدي لتحديات ما يفترض أنه مرحلة انتقالية من التوليتارية الى الديمقراطية ومنظومة الحقوق والحريات المعتمدة لدى الأمم والدول التي وصلت لسن التكليف الحضاري.
زمن النظام المباد استبيحت مؤسسات التربية والتعليم من قبل قوافل (الرفاق) حيث طوبت الدراسات العليا تقريباً لخدمة وتنمية مواهبهم الفريدة، بعد أن مهدوا لذلك عبر برنامجهم الشامل والمنظم لتبعيث المدارس والجامعات بطلابها وملاكاتها التعليمية، لنحصل في نهاية المطاف على أجيال وقيم ومعايير بعيدة كل البعد عما ارتقت اليه المجتمعات والدول التي عرفت معنى الحرية والعقل النقدي والفضول المعرفي. آنذاك دبجت أعداد لا حدود لها من الأطاريح للتغني بـ (حب القائد الضرورة) وغير ذلك من الحشائش الأكاديمية المناسبة لقطيع تلك الحقبة المخزية من تأريخنا الحديث، ولم يخطر ببالنا يوماً، إن مثل تلك الممارسات والمنهجية الضحلة يمكن لها أن تستمر بعد زوال ذلك النظام الشمولي، إلا أن تطور الأحداث بعد “التغيير” ربيع العام 2003 همست إلينا بما قاله الشاعر: (تقدرون وتضحك الأقدار) عندما شرعت أبواب الدراسات العليا لغير المنتسبين لنادي (الرفاق) للولوج لقاعاتها وردهاتها وبالتالي نيل الدرجة العلمية المطلوبة، لكن هذه المرة تلبية لحاجات التورم الكبير في المؤسسات والإدارات الحكومية، وعلى المواقع والمناصب السيادية التي خلت من سكانها السابقين لحظة سقوط الصنم في ساحة الفردوس.
لقد حولت حاجات “أولي الأمر الجدد” وحواشيهم، للألقاب والعناوين العلمية؛ الجامعات العراقية وغيرها الى مفقس لا مثيل له لتفريخ مثل تلك الشهادات المخصصة “للعدائين وراكبي الدراجات” من نجوم ماراثون حقبة الفتح الديمقراطي المبين. ركام من الأطاريح التي لا طعم ولا لون ولا رائحة لها، ولا سيما في حقول الفكر والسياسة والإعلام والعلوم الإنسانية، حيث تعجز حتى المكرسكوبات الإلكترونية، من العثور على بحث يتجرأ على التقرب من تضاريس المسكوت عنه اللامتناهية، لا في حاضرنا ومتاهاتنا الحالية وحسب، بل في كل ما تعيد الأجيال اجتراره من أكاذيب وأضاليل الماضي المثقل بالعتمة والإجرام وقهر إرادة المفكرين والأحرار، على مدى أكثر من ألف عام وعام من ذلك التأريخ. هذا الطفح من “الأطاريح” التي لا تخلف وراءها سوى رزم من الورق المستهلك، لصالح أكاديميات ظلت مخلصة لطقوس الاجترار، بمقدورها أن تصبح نافعة فقط؛ إن رمتها الأقدار في طريق باحث حقيقي لا يسخّر عمله سلماً للدرجة الوظيفية ومفاتنها..
جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة