بعد مشوار طويل ومرير برفقة ما عرف بـ “جمهورية الخوف” نظرت الأقدار بعين العطف على سكان هذا الوطن المنكوب، لتمنحهم فرصة الخلاص من الهيمنة المطلقة لأخطر شبكة اخطبوطية للإرهاب والإجرام، عندما استأصل المشرط الأممي تلك السلطة الغاشمة وشرع الأبواب أمام “التغيير” ربيع العام 2003. لكن وكما في المثل المعروف (تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن) جنح مشحوفنا المشترك الى مسارب وانحدارات لم تكن في حسبان أكثر المخيلات تشاؤماً وسوداوية. صحيح أن فلول النظام المباد وشبكاته السرية الضاربة قد نجحت في الحفاظ على جسمها الأساس وملاكاته المتخصصة في مجال الجريمة المنظمة والإرهاب، مدعومة بما زرعته طوال عقود مما يعرف بـ (الخطوط المائلة) داخل تنظيمات وصفوف معارضيها وخصومها من شتى العناوين؛ إلا أن كل ذلك ما كان له أن يلحق كل هذا الضرر في التجربة الفتية للتغيير، لولا هشاشة وضحالة من تلقف مقاليد الامور في عراق ما بعد سقوط النظام المباد. قوى وكتل وحطام أحزاب هرمة، تنطعت لمثل هذه المسؤوليات الجسام، من دون أن تكلف نفسها بامتلاك أبسط مستلزمات هذا العمل التدشيني الهائل، والذي يستلزم قبل كل شيء؛ وجود تصور أولي لعراق ما بعد زوال النظام المباد. هذا النقص البنيوي والأساس وضع بصمته على كل ما جرى من تحولات دراماتيكية على المشهد العام لما يفترض أنه العراق الجديد.
جميع القوى والكتل أفراداً وجماعات منخرطون في هذه المتاهة، فالأحزاب الإسلاموية التي تلقفت صدر الوليمة وعلى رأسها حزب الدعوة الذي استلقى على سنام المفاصل العليا لحكومات ما بعد التغيير، لم تتزحزح حنديرياته العقائدية والآيديولوجية بالرغم من مواجهته المباشرة ولأكثر من عقدين لمهمات بناء الدولة وتحدياتها الواقعية لا المتخيلة زمن المعارضة ومناخاتها. بقية الأحزاب الإسلاموية لا تختلف كثيراً عنه في الاعتصام بحطام السرديات التي انتهت صلاحيتها منذ زمن بعيد. أما الأحزاب والجماعات التي تمتشق العناوين الحداثوية (القومية واليسارية والليبرالية..) فقد أدمنت حالة التعفن والركود المتواصلة منذ عقود في حياتها الداخلية وسياساتها وسلوكها، وعجزها عن التجدد ومواجهة التحديات المتعاظمة؛ هو من سمح لقوى التخلف والتقليد من التمدد والبقاء. وعندما نتحدث عن هذه المتاهة لا يمكن تناسي اللاعب الأساس فيها (النظام المباد وحزبه وفلوله وواجهاته الحالية) والذي سحق بهمجيته وفهمه الإجرامي الضيق كل ما يتعلق بقوة العراق وعنفوانه وجماله (تعدديته وتنوعه الثقافي والسياسي) طوال أكثر من أربعة عقود من هيمنته المطلقة على مقاليد أمور هذا الوطن المنكوب، وما زالوا بالرغم من مرور 14 عاماً على زوال سلطتهم يعيشون على وهم استردادهم لفردوسهم المفقود، من دون أن تظهر من بين صفوفهم الملوثة أي بادرة للاعتذار أو إعادة تقييم ما نضح عن سلوكهم وسياساتهم التي حولت أحد أكثر البلدان استعداداً للتطور والازدهار الى ملاذاً لأبشع أنواع الكوارث والكوابيس. في عالم اليوم وما يتيحه من بركات العلم والمعرفة والتواصل، لم تعد متاهتنا وطلاسمنا هذه، عسيرة عن الحل والنجاة من حلقاتها المميتة، وقراءة سريعة غير ملوثة بالمسبوقات القاتلة لما راكمته تجارب المجتمعات والدول، ستقودنا الى حيث منبع كل الفتوحات والإخفاقات التي عرفتها؛ ألا وهو الموقف من الثروة، إنتاجها وتراكمها وإعادة توزيعها لا فرهدتها برفقة السلالات المتجددة من اللصوص، يمكن الولوج الى دروب الإصلاح والتغيير..
جمال جصاني
التغيير لم يبدأ بعد
التعليقات مغلقة