شماعة بريمر

بكل ثقة واطمئنان وراحة بال وأستاذية، تقذفنا بعض الكتابات والتحليلات بتشخيصاتها “العبقرية” والمعصومة من الخلل والزلل، حول كل ما حصل لنا “فجأة” بعد استئصال الغدة السرطانية المعروفة بـ (جمهورية الخوف) وحول علل كل هذا الإجرام والإرهاب والفساد والعجز الذي هطل “فجأة” على تضاريس هذا الوطن المنكوب؛ إذ ترشدنا حفرياتهم الى الشيطان المسؤول عن كل ذلك، ألا وهو الموظف الأميركي الذي أرسلته حكومته كحاكم مدني لعراق ما بعد زوال النظام المباد، أو كما يقولون (العراق الأميركي) ولذلك فالحل لديهم لا يقبل القسمة ولا الشراكة، إذ لا مناص من تشكيل جبهة واسعة لـ (القوى الوطنية والديمقراطية وما يتجحفل معها من فصائل متخصصة في العداء للأمبريالية والاستكبار العالمي..) لمواجهة مشروع العم سام، وإطلاق مشروع المواطنة العراقية ومبادرة تأسيس أحزاب وتنظيمات ديمقراطية على أساس دستور حداثوي وعلماني يصل بالعراق الى ضفاف الحلم الذي دغدغ مخيلات حشود هائلة من سكان هذا الوطن القديم على مدى قرن من الزمان.
بعد جهد جهيد يتمخض رحم مدادهم وطرقات كيبورداتهم، عن هذه الوصفة الفنطازية لحالتنا التي أعيت عقول أفضل المنتسبين لمراكز الدراسات والبحوث المتخصصة في هذه المجالات والحقول. السفير بريمر موظف يحظى باحترام وتقدير حكومته وعلى أساس المؤهلات والإمكانات والاستعدادات التي جسّدها طوال نشاطه المهني والدبلوماسي ولا سيما في مجال مكافحة الإرهاب، حيث يعدّ من أبرز المتخصصين فيه، لذلك اختاره الرئيس الأميركي بوش الابن لهذه المهمة في العراق. أما ما حصل لنا بعد “التغيير” فيعود في أساسه الى طبيعة إمكاناتنا الفعلية والتي كشفت عن تواضعها وهزالها، في التصدي لمهمات المرحلة الانتقالية، والمحاصصة كما يعرف كل المنصفين والمتابعين للتجربة العراقية، قبل سقوط النظام المباد وبعده؛ راسخة وموجودة وجذورها تضرب لا في الأزمنة البعيدة وحسب بل تمدد باسترخاء في أعماق اللاشعور، والتستر على مثل تلك الحقائق لن يفضي لغير المزيد من العتمة والمتاهات، أما السفير بريمر فقد ترك لنا مذكراته، عن تجربته تلك كما هو التقليد المتبع غالباً عند الأمم المتحررة من العنتريات الشفاهية، وكان تحت عنوان (عام قضيته في العراق) والذي أثار حنق وغضب الكثير من قوارض حقبة الفتح الديمقراطي، لما ورد فيه من حقائق ووقائع فضحت مبكراً الملامح والقدرات الفعلية لعصبة الحيتان.
إن الحديث بمثل هذه الخفة عن ائتلاف واسع “للقوى الديمقراطية” وغير ذلك من الأوهام والهلوسات، يعني في أفضل الأحوال أن أصحابها يعيشون في عالم آخر لا يمت بصلة لحطام البشر والحجر الذي خلفته عقود من الحروب والمسخ والحصار. مثل هذه الخطابات والاندفاعات المثقلة بالشعارات والأهازيج الثوروية المعطوبة، ستظل عاجزة عن تقديم أي مقترح واقعي وجاد لأجل تغيير هذا الواقع البائس، مصائبنا المحلية معقدة ولن تزيدها الحلول القشرية وعطاباتها إلا تعقيداً. اتركوا بريمر بحاله وابحثوا لكم عن شماعة أخرى بمقدورها تحمّل وزر خيباتنا وهزائمنا التأريخية والحضارية المخضرمة. لسنا من هواة جلد الذات، لكننا لن ننجو من مثل هذه المصائر المأساوية؛ إن بقينا معتصمين بمثل هذه التقاليد المدمنة على إلقاء آثامنا وعجزنا وعيوبنا على شماعة الآخرين..
جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة